ماذا لو تملَّكت منك النوستالجيا؟
ذلك الحنين المخفي في جنبات صدرك نحو لحظات وأحداث ومشاعر وشخصيات أخذت مكانها في الماضي. الماضي الذي لطالما تمتع بميزة التقدير المبالغ، ورغم ذلك هو دوماً مُفتقَد. سأكون صريحاً وأخبركم أنني لست أكثر الأشخاص شاعريةً في الكون، ولست الأرهف حساً، لكنني أشتاق دوماً لما مضى، أفتح باب الحديث، أتجاذب أطرافه رويداً رويداً حتى يصل إلى بر ذكريات مر الزمان ودب بقدميه عليها، ورغم ذلك تراني أتحدث عنها بشغف كأنني رأيتها للتو، كأنني أختبرها للمرة الأولى في حياتي.
ثلاثة أشخاص يجلسون على مقهى شعبي، أحدهم بدأ يشكو ويتذمر حول مدى سوء أحواله الدراسية، الآخر بدأ في الحديث عن تدهور حالته العاطفية، ثم شرع يشتكي من كون النساء أسوأ كائنات الأرض، رغم أنه لا ينفك يصادقون يحاورهم. ينسى ذلك الغاضب كيف يحمر خداه عندما تخرج كلمة شاعرية من شفاه حبيبته ومن ثم يتجاذب معها أطراف كل حديث ممكن، كالمخمور نسي حياته من أجلها.
أما أنا فما زلت شاعرياً، لكن على طريقتي، إذ انتهى بي الأمر ولم أجد مفراً من أن أفكر في الماضي. أن أتذكر ذكرياتي مع تشابي ألونسو، تلك القدم التي ندر رؤية مثيل لها. في ليلة مثالية يبدأ فيها تشابي العزف على جهاز "التمريرات القصيرة" التي دائماً ما تصل إلى وجهتها الأخيرة برقة في قدم الزميل، فلا هي قصيرة تجبره على الالتحام لاستخلاصها، ولا هي قوية يصعب ترويضها، ينتقل بعد ذلك إلى جهاز "الكرات الطويلة" القادر على اختراق أقوى دفاعات وحصون الأرض عن بُعد دون الاشتباك أو الاصطدام بأي مقاتل أو مدافع. وأحياناً يشتمل العرض على فقرة للمراوغات السلسة البسيطة، التي تحقق الهدفين؛ المتعة والنجاعة. فهي سلسة سهلة حد الاستحالة، وهي قادرة على كسر وتجاوز أي ضغط، أتذكر تشابي ألونسو كما أتذكر قائد الأوركسترا في المرة الوحيدة التي ذهبت فيها إلى الأوبرا.
عندما نقرر أن نحضر حفلة موسيقية لأوركسترا تعزف سيمفونية فريدة أو مقطوعة نادرة، نرى شخصاً واقفاً وظهره للجمهور، مواجهاً الأوركسترا الخاصة به. يُمسك بيده عصا صغيرة يحركها في اتجاهات مختلفة، صعوداً نزولاً جانبياً ودائرياً يبدو لنا أنه مهم جداً للموسيقيين رغم أنهم بالكاد ينظرون إليه!
لو قررت أن تذهب إلى ملعب البرنابيو في الماضي القريب، كنت ستشاهد أحدهم يرقص ويقفز على الخط مدافعاً عن فريقه أمام التحكيم السيئ، برتغالي آخر داخل الملعب، يبحث عنه الجميع يبحث ليحول مجهود الفريق إلى منتج ملموس، اسمه "هدف". لكن الأهم من ذلك ستشاهد شخصاً ما يعزف بقدمه، تبدأ الهجمات من عند قدميه، تشعر عيناك بالراحة كلما لمس الكرة أو داعبها برفق أو ركلها بقوة. لست وحدك من يبحث عنه، زملاؤه على أرضية الميدان يبحثون عنه ليخلق لهم الحل تلو الآخر كلما استعصت عليهم شفرات الخصوم. الجميع يبحث عنه، من محللين ومدربين ومشجعين وجماهير وخصوم، ينتظرون بشغف أن يداعب تشابي الكرة.
رحلة الماضي هي أفضل ما أفعل في حياتي اليومية، فماذا لو تخللها تشابي ألونسو؟ بالكاد استطعت التنفس من تلك المشاهد الرأسية الجميلة في رأسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.