وأنا أكتب هذا المقال جلست مع عضو في البرلمان، دار الحديث حول ما إن كانت تجربة ثورة فبراير ناجحة أم لا، ولأن هذا البرلماني كان صادقاً مع نفسه فقد قال بوضوح فكرة بدأت كتابتها قبل يوم واحد من مقابلته، هذا ما شجعني أكثر على الكتابة في هذا الموضوع.
استناداً إلى بعض تحليلات علم الاجتماع عن الحياة السياسية والمجال العام، فإن الصفوة من الناس هي مَن تتمكن من تشكيل تفاصيل الحياة السياسية في مختلف النواحي، لأن معظم الجماهير هم من متوسطي الذكاء، وهؤلاء لا يمكنهم أن يكونوا فاعلين في تقدم الشعوب.
عندما يكون لدى هذه الشريحة "متوسطي الذكاء" القرار فإنك ترى تخبطاً في مستويات عدة.
النية الصادقة والحماسة في التغيير مع قلة الذكاء وضعف الخيال لا يمكنها أن تصنع واقعاً أفضل في الاقتصاد أو السياسة التي دائماً لا تؤمن بنظرة العقل فقط بل بواقع التجربة أيضاً.
هناك نظريات كثيرة نشأت وكان من المتوقع أن تقود مجتمعاتها إلى السعادة لكنها لم تفعل ذلك، بل قادتهم إلى مزيدٍ من الشقاء.. رغم أن النظرية من خلال الفحص العقلي تبدو مكتملة.. لماذا؟
لأن التجربة هي التي تحدد صوابية هذه النظرية أو خطأها، ولذلك في الشؤون السياسية تعد التجربة أهم من الرؤية العقلية.
قد تؤدي تجربة سنّ قوانين معينة إلى حياة أفضل، رغم توقعنا أنها ستؤدي إلى واقع أسوأ والعكس أيضاً.
التجرية الإشتراكية.. الجحيم للجميع
كانت الاشتراكية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وعد البشرية بالخلاص، انضمت إليها الجموع دون حصر، تفشّت في أوساط العمال مثل السرطان، واعتنقتها فئات كثيرة. كان المشهد في أوروبا يسير نحو امتلاك الفئات العمالية السلطة وتزايد تأثيرها الكبير على تشريع القوانين وإصدار القرارات.
هذه الفئات لم تكن تدرك مصالح شعوبها، لكنها كانت تقترب من التحكم في تفاصيل الحياة السياسية.
كان الحكام والأحزاب يخشونها، وكانوا يلبون كل طموحاتها ورغباتها.
انتهت الاشتراكية بعد نحو 80 عاماً، وتركت أسوأ الذكريات عن تلك الحقبة السياسية، وكان موتها إعلاناً لفشل نظرية ماركس.
عندما انتقلت النظرية من الكتب إلى التطبيق على أرض الواقع تبين للجماهير عوار هذه النظرية.
لم تستطع الاشتراكية إذاً إسعاد الطبقات العاملة بل قادتهم إلى الجحيم.
كانت ثورة فبراير نظرية ناجحة بكل المقاييس، لكن بعد التجربة من الصعب جداً إطلاق هذا الحكم دون إضافات أو مراجعات.
قبل الثورة بأعوام قليلة لم يكن أكثر الناس مهتمين بالشأن السياسي، كانت الصحف تُقرأ من قبل البعض، والكثير من أولئك الناس لم يكن لديهم اهتمام بما يقال في تلك الأوراق الكبيرة.
كانت الحياة بكل تفاصيلها تعنيهم بكل تأكيد، لكنهم لم يكونوا فاعلين في رسم الحياة بالبلد، من كان منهم يراقب كان يكتفي بالمراقبة، وكان هناك أناس تدور حياتهم حول ممارسة العمل السياسي، كانت هذه النخبة هي التي تمارس العمل السياسي.
معظم الناس اليوم لا يكتفون بمتابعة الشأن السياسي، بل أصبحوا فاعلين في المشهد، هل لهذه المشاركة الواسعة أضرار أم فوائد؟ هذا ما يجب أن يأخذ مساحة بحث واسعة من قبل المهتمين وعلماء الاجتماع والسياسة.
ما الذي تضيفه المشاركة الواسعة للحياة السياسية؟ وما الخسائر أو الفوائد التي يمكن أن نحصل عليها؟
على مر التاريخ الإنساني لم تسهم الجموع في ازدهار الحضارة إلا كمساعد لها لا كمشارك حقيقي في اتخاذ قرارها. كان دور الجماهير مسانداً أو مساعداً لتقدم الحضارة أو ضاغطاً من أجل تحقيق أهداف معينة، لكنها متى ما كانت صاحبة القرار المطلق فإنها تسير بالحياة نحو الوحشية، وبالإنسان نحو حياة الكهف الأولى.. الجموع تعلي من شأن الغرائز، ولا يمكنها أن تمنح المجتمع ما يلزمه من أمان وازدهار.
يسجل غوستاف لوبون رأياً بالغ الأهمية، هو أن أكثرية المجتمع مؤلفون من أُناس متوسطي الذكاء العقلي، الذين لا رائد لهم سوى ما في المجتمع من آراء ومعتقدات يؤمنون بها ويسلمون بها دون تفكير أو نقاش، تشغل بالهم أشياء كثيرة، هذا يتيح للنابهين في كل شعب السير بالحياة نحو الأفضل، وليس في ظني أن المشاركة الواسعة التي تحظى بها الشعوب في هذا العصر، خاصة بعد ثورات الربيع العربي ستكون عاملاً مساعداً لاستقرار البلدان.
تكون للجماهير أدوار مهمة حين تُصاغ الرؤى والنظريات السياسية بعيداً عنهم من قبل نخبة وقادة حقيقيين ثم يكون دور الجماهير مسانداً لها، لا شريكاً حقيقياً في صنع القرار.
علق إمبرتو إيكو على هذه المشاركة الواسعة فقال:
"أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل مَن يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء".
نحن لا ندري إلى أين نقود أنفسنا، الحياة بكل تفاصيلها السياسية والاجتماعية في اليمن غير قادرة على إنقاذ نفسها، ويبدو أن الوطن العربي كله يغرق.
كشف واحدة من أحط مراحل التاريخ البشري.. لماذا لم يفز فيلم "الجوكر" بجائزة الأوسكار؟
محمد العليمي يدرس الماجستير في مجال اللغة العربية، مقيم في إسطنبول، ويهتم كثيراً بالكتابة الإبداعية في السياسة والأدب، ويعمل في مجال الصحافة في قناة بلقيس اليمنية، يكتب منذ عام 2012 في العديد من الصحف المحلية والعربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.