اجتماعات روكسي والمهندسين
باشرت مَهمتي، في اليوم التالي من تكليفي مسؤولاً عن "ملف ماسبيرو"، بالاتصال بعدد من الشخصيات التي كانت تشغل مواقع عليا ومتوسطة، بالإذاعة والتلفزيون، بحكم علاقتي السابقة بها؛ سعياً مني لرسم صورة أكثر قرباً ووضوحاً لهذه المؤسسة السيادية العريقة، وكنت ألتقي هذه الشخصيات في كافيهات روكسي والمهندسين، وليس في قصر الاتحادية؛ لسببين:
السبب الأول: أني كنت "مُكلفاً" من الرئاسة بمَهمةً، ولم أكن "موظفاً"، ومن ثم، فلا يمكنني عقد أي اجتماع مع ضيوفي من خارج الرئاسة في قصر الاتحادية، إلا بعد سلسلة من الإجراءات الأمنية المعقدة التي تستغرق وقتاً ليس بالقصير، في ظرف كنا أحوج ما يكون لكل ثانية! فقد كنا ندرك تماماً أن للثانية الواحدة قيمة وثمناً، وليس للدقيقة أو الساعة فحسب.
السبب الثاني: أني كنت حريصاً على ألا يتم "رصد" هذه الاجتماعات أمنياً، فلا توضع هذه الشخصيات تحت المجهر، بعد لقائي إياها، من قِبَل الأجهزة الأمنية، فقد كنت أعتقد (حسبما بَدَا لي وقتذاك) أننا "ضيوف" على الرئاسة، وأن استمرارنا في أداء المهمة التي انتدبنا لها الشعب سيكون أمراً استثنائياً يرقى إلى مستوى المعجزة.
ولأني لم أكن "موظفاً" فلم يكن لي راتب من الرئاسة ولا حتى مكافأة! ولا يخفى عليكم قدر تكاليف الضيافة في كافيهات روكسي والمهندسين، فضلاً عن الانتقالات بالتاكسي، فتكفّل ولداي، حبيبة ومصعب، بتوفير نفقات هذين البندين من جيبهما الخاص، وكانا يعملان في دولة الإمارات وقتذاك.
وللتوضيح؛ فإن مؤسسة ماسبيرو (قبل تحويل وزارة الإعلام إلى الهيئة الوطنية للإعلام) كانت تتألف من تسعة قطاعات رئيسية هي: التلفزيون، الإذاعة، والأخبار، والمتخصصة، والإقليمية، والأمن، والإنتاج، والاقتصادي، والأمانة العامة. إذا كنت -عزيزي القارئ- قد قرأت أسماء القطاعات المذكورة بعناية، ولم يستوقفك شيء، فاسمح لي أن أستوقفك قليلاً؛ كي يتضح جلياً لك لماذا استعملتُ تعبير "بيت النمل" لوصف هيكل ماسبيرو الإداري.
فإن كنت لا تزال ترى في هذا التصنيف (التلفزيوني) شيئاً من المنطق، فلِمَ لم ينسحب على الإذاعة أيضاً، ولم تنبثق عنها قطاعات مماثلة؟!
بالإضافة إلى الإذاعات المستقلة المعروفة، مثل: البرنامج العام، وصوت العرب، والشرق الأوسط التي تندرج (بديهياً) تحت "قطاع الإذاعة"، سنجد "إذاعات متخصصة" مثل: القرآن الكريم، والشباب والرياضة، والتعليمية، والبرنامج الثقافي، والبرنامج الأوروبي، والبرنامج الموسيقي، وإذاعة الأغاني، وسنجد "إذاعات إقليمية" مثل: القاهرة الكبرى، والإسكندرية، ومطروح، ووسط الدلتا، وإذاعة جنوب الصعيد، وسنجد "إذاعات موجهة" إلى قارات العالم الست، بلغات محلية، تبث على الموجة القصيرة، ولا يسمعها أحد؛ لعدم تحديث ناقلات البث، منذ زمن بعيد.
وستجد إذاعة لا يمكن تصنيفها ضمن هذه القطاعات، اسمها "إذاعة وادي النيل"، وهي إذاعة حكومية، مشتركة بين دولتي مصر والسودان، تم إنشاؤها بموجب "اتفاقية التكامل بين مصر والسودان" عام 1984. وفي التصنيف، تأتي هذه الإذاعة تحت إذاعة "صوت العرب"، وليست إذاعة مستقلة!
شخصياً، لا يمكنني فهم هذا التمييز في "الهيكلة" بين الإذاعة والتلفزيون، في أي سياق موضوعي يهدف إلى "الارتقاء بالأداء"، أو "التنافس المهني على الصدارة" مع الاتحادات العربية المماثلة، لا سيما أن الإذاعة والتلفزيون المصريَّين قد أخذا في الانكماش، مكانةً وتأثيراً، منذ عقود. وإذا سألتني عن السبب، فسأجيبك بجملة من كلمتين: "إنه الفساد"، فالهيكل الإداري على النحو المذكور، لا أرى فيه إلا "تقنيناً" لـ "شراء الذِّمم"، بتعبير صريح، أو "ضمان الولاء"، بتعبير ملتوٍ، أو "شكراً عن خدمات جليلة"، بتعبير مخابراتي، تمت لصالح مبارك وحاشيته، أو صفوت الشريف الذي ظل يشغل منصب وزير الإعلام 22 عاماً!
أمَا والحال على هذا النحو من "الفوضى الممنهجة"، فلِمَ لا نجامل فُلاناً بإنشاء "قطاع" يضم تحته (شوية حاجات)! وماذا لو جاملنا آخر بإنشاء إدارة جديدة يترأسها، بغضّ النظر عن الحاجة إليها، حتى لا ينتظر دوره في الترقية!
والإدارة الجديدة تحتاج موظفين جُدداً، يُعيّنهم "صاحب الإدارة" بمعرفته، وعلى طريقته، بما يوطد نفوذه في موقعه الجديد، لأسباب شتى لا علاقة لأي منها بمهنة الإعلام، أو بالخدمات المساندة له، وكله بالقانون.
ودعني أزِد من دهشتك -عزيزي القارئ- فأقول لك: إن إذاعة "راديو مصر" تتبع "قطاع الأخبار"، وليس "قطاع الإذاعة".
وسكنتُ في مساكن الذين ظلموا..
اقترح عليَّ زملائي في الرئاسة أن يكون مكتبي بـ "أرض الحرس"، وليس في قصر الاتحادية؛ كي تكون لديّ حرية أكبر في استدعاء من أشاء بأي وقت أشاء، دون التقيد بمواعيد العمل الرسمية. و "أرض الحرس" هذه، عبارة عن مربع، داخل قطاع "الحرس الجمهوري" بمصر الجديدة، وهي منشأة عسكرية، على رأسها ضابط في الحرس الجمهوري برتبة عقيد، ولها مدخلها الخاص.
هناك في "أرض الحرس" يوجد مبنى مؤلف من عدة طوابق، وفيلا، وإذاعة "احتياطية"، واستوديو تلفزيوني مجهز تجهيزاً كاملاً، يصلح من حيث المساحة والتصميم الداخلي لأن يكون محطة تلفزيونية، تبث أي عدد من البرامج في اليوم، وهو الاستوديو الذي ألقى منه الرئيس مبارك خطاباته الأخيرة، بعد اندلاع انتفاضة 25 يناير/كانون الثاني 2011. وهو الاستوديو نفسه الذي ألقى منه الرئيس مرسي، رحمه الله، خطابه التاريخي الأخير.
أما الإذاعة الاحتياطية، فلا تُستخدم في بث البرامج والأخبار، إلا في حالة استهداف ماسبيرو وتعطيل العمل به؛ حتى لا تشعر الجماهير بأن أمراً جللاً قد وقع، ولعلها المرة الأولى التي تعرف فيها -عزيزي القارئ- أن هذه الإذاعة هي الإذاعة المشهورة بين المصريين والعرب باسم "إذاعة أم كلثوم"، وتبث من الخامسة إلى العاشرة مساء!
أما الفيلا، فكانت في مواجهة المبنى متعدد الطوابق، ويفصل بينهما شارع لا يتجاوز عرضه خمسة أمتار. وهذه الفيلا هي "المقر الآمن" لرئيس الجمهورية الذي يدير منه شؤون الدولة، في حالات الطوارئ، بعيداً عن القصور الرئاسية المعروفة. وقد قضى بها الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، أسبوعه الأخير في سدة الحكم، حيث اجتمع -لآخر مرة- بمساعديه وبعض الوزراء، وفيها ألقى كلمته التي صوَّرها الوزير يحيى حامد بهاتفه المحمول؛ تحسباً لعدم تمكينه من إلقاء خطابه الأخير، وفيها أيضاً استقبل الجنرالَ عبدالفتاح السيسي يومي 2 و3 يوليو/تموز 2013، قبل أن يعلن الانقلاب على إرادة الشعب بساعات قليلة.
في المبنى متعدد الطوابق، كان يوجد في الطابق الثالث منه جناح مخصص (بالكامل) لجمال مبارك ومعاونيه، كما قيل لنا. وكان مكوَّناً من صالون وثير الأثاث، ومجموعة مكاتب فخمة، يشغل بعضها "باحثون"، وقاعة اجتماعات أكثر فخامة، وهي التي كنت أستقبل فيها ضيوفي، ومن بين المكاتب الخالية، اخترت واحداً لي وآخر لزميلي الدكتور سامح العيسوي المسؤول عن "ملف الإعلام الخاص"، أي قنوات مدينة الإنتاج الإعلامي وإذاعاتها.
وحدة الرصد التي أسسها زميلي من جيبه الخاص!
توجد إدارة في ماسبيرو تُعنى برصد المحتوى الذي يبثه ماسبيرو، من خلال أذرعه "الأخطبوطية"، على مدار الساعة؛ لتدوين الأخطاء والملاحظات الفنية. وحسب الأصول، فإن نسخة من "تقرير الرصد" هذا تُرفع إلى وزير الإعلام كل صباح، فيبدي ملاحظاته أو توجيهاته التي يجب أن تنفَّذ فوراً. غير أن مؤسسة الرئاسة لم ترَ نتيجة مُرضية، على هذا الصعيد، حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2012، وربما كان هذا هو السبب الأساس في استحداث "ملف ماسبيرو" برئاسة الجمهورية والذي تم إسناده إليّ في يناير/كانون الثاني 2013.
ولعل بعد حديثي عن "بيت النمل"، أصبح باستطاعتك -عزيزي القارئ- الوقوف على عدد الميكروفونات والشاشات التي تبث من ماسبيرو، أو تتبع له في الأقاليم، ولك أن تتصور عدد البرامج التي تبثها، وكم تحتاج من الكوادر البشرية "المُخلِصة" لرصدها، كي يمكن تصويب ما يجب تصويبه، بعيداً عن بيروقراطية وزارة الإعلام ولوائحها، وتعقيدات إجراءاتها البالية المُهدِرة للوقت والجهد. لذا، كان لا بد لنا من تكوين "فريق رصد" خاص بالرئاسة.
تشاورت مع زميلي الدكتور سامح العيسوي، مسؤول "ملف الإعلام الخاص"، بشأن فريق الرصد، بعد أن قمنا بجولة في المبنى متعدد الطوابق، ووجدنا عدداً كبيراً من الحواسيب التي كان يستعملها فريق جمال مبارك، في قاعة كبيرة، تحتل الجهة المقابلة لجناح مبارك الابن، لكنها كانت بحاجة إلى "كروت" خاصة؛ كي تلتقط البثَّين الفضائي والإذاعي.
سأل زميلي الدكتورُ سامح العقيدَ (ش) قائد أرض الحرس: كم ثمن هذه الكروت؟ وكم يلزم من الوقت حتى تصبح هذه الحواسيب جاهزة للاستخدام في الرصد؟ فأجاب العقيد: "شهر ونصف إلى شهرين على الأكثر"! فبدت هذه المدة دهراً، في نظر شخص (مثلي) لم ينخرط من قبل في أي عمل حكومي، وانزعجنا كثيراً.
أخذ العقيد في شرح الإجراءات الواجب اتباعها، بدءاً من تحرير طلب الشراء، وانتهاءً بالتركيب، مروراً بالإجراءات الأمنية اللازمة، فسأله زميلي مجدداً: كم تستغرق هذه العملية إذا كانت النقود اللازمة لشراء الكروت بين يديك الآن؟ فأجابه العقيد: "أسبوع على الأكثر". مدَّ زميلي الدكتور سامح العيسوي (شفاه الله) يده في جيبه، فأخرج رزمة مالية كبيرة، وأعطى العقيد (ش) المبلغ الذي طلبه، نحو عشرة آلاف جنيه أو يزيد، وبعد أسبوع، كانت الحواسيب جاهزة لالتقاط البثَّين الفضائي والإذاعي.
في أثناء ذلك الأسبوع، كنت أتشاور مع زميلي الدكتور سامح، بشأن الأسماء التي يمكن أن تصلح لمهمة الرصد، وبالمناسبة، فإن عملية الرصد ليست عملية "روتينية" كما قد يتصور البعض، ولا يصلح للقيام بها أي شخص؛ لأن رأي الراصد مهم جداً في تشكيل الرأي والقرار عند المحاسبة عن "التجاوزات المهنية" المتعمَّدة. وبالفعل، وقع اختيارنا على عشرة أشخاص، كلهم في أواسط العشرينيات من العمر، ويتمتعون بمهارات عالية.
بعد أسبوع، بدأت وحدة الرصد عملها.. وهنا يجب التنويه إلى أن هذا العدد القليل الذي تشكَّل منه فريق الرصد، لا يمكنه متابعة هذا السيل من البث الإذاعي والتلفزيوني، لذا، قمنا باختيار أكثر البرامج جماهيرية، وأشد المذيعين ولاءً للثورة المضادة، وأحدّهم لساناً على الرئيس مرسي، وستكون لي وقفات مع هذه النقطة بالتحديد، في المقال القادم، إن شاء الله.
لأسباب بيروقراطية غبية، لم نتمكن من "توظيف" فريق الرصد، ومن ثم، لم تكن هناك رواتب لهم، وكان لا بد للعمل أن يستمر، فبادر أخي وزميلي الدكتور سامح العيسوي مجدداً، فظل يسدد مستحقات فريق الرصد، من جيبه الخاص، حتى قيام الانقلاب. لقد كان ميسوراً، ويملك شركة مقاولات ورثها عن والده.. وللأسباب البيروقراطية الغبية نفسها، ووقوع الانقلاب على الرئيس المنتخب، لم يتمكن الدكتور سامح من استرداد جنيه واحد من هذه المبالغ التي "أقرضها" لرئاسة الجمهورية من جيبه الخاص.
ومن المضحكات المبكيات أن رئاسة الجمهورية (بعد الانقلاب) أقامت دعوى ضد الدكتور سامح، تتهمه فيها بتبديد "العُهدة الحكومية" وتطالبه بإعادتها، أو تسديد ثمنها! ولم تكن هذه "العهدة" سوى حاسوبين محمولين، من أرخص الأنواع، أحدهما له، والآخر لي، غير أنه هو الذي وقَّعَ بتسلُّمهما. وللعلم، فإن حاسوبي تعطَّل فجأة واستحال تشغيله، فرميته.
أحمد عبد العزيز هو المستشار الإعلامي للرئيس المصري الراحل محمد مرسي
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.