شعرها مصفف، أظافرها مبرودة، وتهتف بالإنجليزية.. “النضال الكيوت” الجديد في فلسطين!

عدد القراءات
4,929
عربي بوست
تم النشر: 2020/02/10 الساعة 13:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/10 الساعة 13:45 بتوقيت غرينتش

حتى ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي، ظلّت صورة امرأة تظهر على شاشات التلفزيون، وهي تلقي الحجارة على قوات الاحتلال في اشتباكٍ غير متوقّع، أو تشتم أحد الجنود وتحاول ضربه وهو يعتقل أحد أبنائها، هي صورة امرأةٍ غير آبهة بما يبدو عليه شكلها أمام الكاميرا، غير مهتمة بما سيحدثه تصرفها في عين العالم، إذ كانت عين العالم وكاميراته، بل ورأيه، لا تحتل في وعيها، ووعي الفلسطينيين عامة حينذاك، مساحة ذات قيمة أو تأثير من الهدف الماثل أمامهم، فبدت هي، وبدوا جميعاً، "فلسطينيين طبيعيين".

امرأة أربعينية، تلبس ثوباً "مزنّر" بحزام مطرّز، والشال (اليانس) يستقر على أحد كتفيها منزلقاً عن رأسها نصفه، فتظهر من تحتها تجعيدة شعرها المشعثة، تخفيها مرةً بعدما تلقي الحجر بأن تردّ الشال إلى موضعه، وتتركها مرات على حالها بينما تواصل جمع الحجارة ومراقبة صبيانها، فتبدو كأنها تحصد محصول حزيران، وتراقب شمسه. هذا ما كانت عليه الصورة الفلسطينية "الحيّة".

يخال المتابع من خارج الدائرة الأولى، من خارج فلسطين، أن الاحتلال جعل فلسطين وقضيتها وأهلها يسكنون زجاجة، بأن حُرموا من "التغيّر"، واستحالت الحدود المغلقة عليهم إلى فاصل زماني يحرمهم من "التطور السريع"، فعُزِلوا عن العالم مكتفين بهمّهم ونكباتهم، ولربما لا زالوا يحتفظون بخيامٍ من النكبة، ليس للذكرى وإنما للسكنى! فكرة تكاد تماثل فكرة الأوروبيين عن الخليج، صحراء ورعاة إبل، وتماثل فكرة الشرق آسيويين عن زواج العربي بمئة امرأة، وتماثل فكرتنا عن الإنسان البدائي الأول الذي لا زال على قيد الحياة في إفريقيا جنوبها. 

غير أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، إذ يكفي هذا المتابع، أو ذاك، أن يقارن بين بضع صور، من الذاكرة الاجتماعية لا من التاريخ، حتى يوقن بأن التغيّر كله، داخل فلسطين وخارجها، يُرى فقط بمرآة القضية الفلسطينية.

لا حديث هنا عن حروب أو اتفاقيات أو قرارات أو صفقات، وإنما عن "غرزة تطريز" و"رغيف مسخّن". لا بد أنك رأيت أحدهما، أو كليهما، في صفحة إلكترونية أو عبر إعلان مموّل، فغرزة التطريز أُدخلت على كل شيء تقريباً، على مرايا وحقائب وأحذية وملابس وإكسسوارات وعلى هدايا كثيرة لا تُستخدم، وهذا ما انسحب على رغيف المسّخن، الذي تحوّل إلى "مسخّن رولّات"، حيث فقد الزيت والبصل بهاءهما، وحوصرا في لفافة رقيقة كلفافة تبغ.

اتصال المصطلح بمعناه في الحياة واقعاً ملموساً يجعله عصيّاً على النسيان أو تقبّل التزوير. غرزة التطريز الشعبية التي كانت تزين بها الفلسطينية قطعة قماش "سادة" تحصل عليها كل سنة أو اثنتين، بحسب غلّة الموسم، تجمّلها بها بجهد يديها وعينيها، وتُميّزُها عن "غرزة أخرى" تُعرف بها أثواب فلسطينيات من مناطق أخرى، تلك الفلسطينية ذاتها التي تعدّ رغيف المسخّن من زيت وبصل أرضها، وتتركه مفروداً، فيملأ بلمعانه ومساحته عين الضيف، وهل كان المسخّن يُعرف إلا بالضيف "وعلى موسم الزيتون"؟ 

هذه المرأة ذاتها، بعدما احتُلت أرضها، خرجت بجهدها وأبنائها، وبثوبها المطرّز وبقايا أرغفتها، تقاوم وتدفع عن أرض متصلة بها، أرض خَبِرَتها، غاصت كل منهما في الأخرى، وبدت آثار ذلك واضحة على كليهما، فكانت كلها رموز تمثّل بعضها وتغني إحداها عن الأخرى عند الحديث عن المقاومة.. الأرض والزيتونة والمرأة بثوبها المطرز ورغيفها، كلها ترمز حقاً للقضية، بل هي كلها "قصة" القضية!

عودٌ على بدء، إلى صورة المرأة المقاومة منذ عقدين أو ثلاثة، لو سحبنا هذه الصورة على امرأة "فلسطينية عصرية"، ليست معزولة، بل هي جزء من "العالمية" و "تقدمها" و "إنجازاتها"، تخرج في مسيرة "رفض" أو "تنديد" سلمية، مسيرةٌ مُعلنٌ عن موعدها وتوقيتها مسبقاً، ومعلومةُ نقطة البداية، امرأة على علم بأن عشرات الكاميرات والفضائيات تنقل وقفتها، امرأة ذات شعر مصفف وثياب "صرعة" وأظافر مبرودة وعينين أثقل جفنيهما الكحل وعائلته، تعمل في "منظمة دولية غير ربحية" أو في "بنك ربحيّ"، وآخر ما عهدتَه من تعامل مع تراب أرضها هي "شوية غبرة" علقت بحذائها، فأزالتها بـ "الوايبس" لا بالمنديل.

امرأة تضيف "غرزة التطريز" على سترة فاخرة تحضر بها "اجتماعاً دولياً" تطالب فيه بالرأفة بالفلسطينيين والاعتراف بحقوق "إنسانيتهم"، وتعرض مطالبها بلغة إنجليزية ممتازة، فالإنجليزية لم تفارقها لحظة منذ ولادتها، في بيت ومدرسة وجامعة وأغنيات ودورات خارجية…، وبعد اجتماعها، إذا ما سُئلت عن طبق تفضله، لم يضيفوه إلى "المنيو"، طلبتْ Rolls مسخّن، تأكيداً على الهوية!

الإرث الشعبي، مع سبق الإصرار على إظهاره أو مع براءة إظهاره على حد سواء، لا يجعل من مستخدمه "رمزاً" معبراً عن القضية طالما أن "منهج" هذا المستخدِم لا ينتمي إلى منهج "عائلة رموز القضية"، المذكورة آنفاً، فمن ناحية أن قضية "الحق والباطل" لا يجدر بالمتحدث باسمها أن ينتهج سبيل "إلقاء الورود" على المحتل، علّ هذا العدو يتنبّه لشيء من "أخطائه" ويعتذر عنها! ومن ناحية أخرى أن منهج "المقاومة الكيوت"، الذي يزيّنه الإعلام العالمي، بل ويسوّق أصحابه على أنهم "المعارضة" الوحيدة على الأرض، يلغي صوت وصورة صاحبات وأصحاب منهج النضال الفعلي على الأرض، ويصوّر الأخيرين وحوشاً غير متحضرة، وحوشاً "ما بتعرف مصلحتها"!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هند دويكات
كاتبة ومحررة فلسطينية
تحميل المزيد