كأن الحياة لا تعطينا شيئاً جاهزاً، أحلاماً واضحة أو أماني مضمونة، أو حتى خياراً واحداً لما نريد، واحداً فقط وسط هذه الاختيارات والمجالات، وسط هذه الدنيا الشاسعة المليئة بالعلوم، التي لا تعرف عنها شيئاً سوى اسمها، وتجلس أمام العالِمِين بها متسائلاً/ كيف حَفظ كل هذه النظريات واكتسب هذه المهارات؟ كم استغرق من الوقت؟ بل كيف عرف أنه يحب هذا العلم دون غيره؟ كيف اكتشف شغفه؟
وتأبى الحياة أن تعلِمك ما تهواه بسهولة، رغم انتظارك الطويل لإفصاحها، ورجائك العريض لمقاومتها، وظنك أن الحقيقة لا بد لها من ظهور، ولا بد من معرفتك إذا لم يكن اليوم فغداً! ولكن الانتظار طال وتململتْ من صبرك ليالٍ طوال، والوقت قصير على النهار ولا بد من وقفةٍ ذات قرار.
لا تعطينا الحياة أمانينا على طبقٍ من ذهب؛ بل نحفر لنلقى الذهب، وشغفنا مثل الذهب في أعماقنا لا يلقاه إلا من فتَّش بجوفه، وكثيرٌ رضوا بالعيش جاهلين بشغفهم ومبتغاهم، فعاشوا ذوي إنتاج قليل غير مؤثر، وكم كلف البحث المتأخر عن الشغف أوقاتاً بالسنين لمن استغنوا عما وصلوا إليه في سبيل السير بطريق شغفهم وأحلامهم، التي لو علِموها من زمنٍ لتغيرت أحوالهم إلى الأفضل.
ولا نقول إن السير في طريق شغفك غير شاق؛ فقد تبذل فيما تهواه أضعاف ما تبذله في غيره، ولكنه جهد محمود محبوب قريب مؤنس، يقبع بداخلك كقنديل نورٍ تتحسسه كل حين وحين، تُشعِله عندما يَخفت، ويدفعك عندما يشتعل.
جميعنا نحاول
الجميع في الرحلة هنا، كلنا نسير ونجتهد في معركة الحياة، المبتدئ يحاول والعالِم يُكابِد، الجميع يطمح إلى الأفضل والأرقى، فلستَ وحدك متعَباً يضيق بك الطريق أحياناً وتتوه عنه أحياناً أخرى؛ بل هي قاعدة الحياة ومتطلباتها؛ والمشقة ركن أساسي بها، والعجيب أن هذه المشقة هي سر السعادة بها عندما تنبت الإنجازات وتثمر.
نفسك أَولى بسؤالها
اجلس إلى نفسك وفكِّر فيما يشغلها ويعجبها، ما تحب أن تكونه وما تسعد بممارسته من مهام وأعمال، حرِّر نفسك من قيود المفروض، فأنت أدرى بنفسك من غيرك "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ"، قد تكون الأمور مشوشة في ذهنك بالبداية، ولكن التفكير العميق والهادئ المتحرر من نظرة المجتمع وتقييمه؛ يساعد على وضوح الرؤية وكشف الرغبات المضمرة.
اكتب ما يأتي لذهنك ورتِّب هذه الأفكار والرغبات، بالتأكيد بعد هذه الجلسة إن لم تخرج عارفاً برغبتك؛ فإنك على الأقل ستكون خرجت بمجالين أو ثلاثة يكمن بهم شغفك.
اسألوا أهل العلم
لوضوح الرؤية واكتشاف المراد؛ عليك سؤال العارفين بالمجال أو المجالات التي تميل إليها، لتتعرف على كيفية استقاء هذا العلم وسبيل الاحتراف فيه ومدى صعوبة الطريق ومتطلباته، وما لديك من إمكانات ذهنية ومادية ونفسية لتسبر أغوار هذا المجال وتحترف فيه.
وعلى أهمية هذه الخطوة في استبيان الحقائق لتتمكن من القرار، عليك باختيار من تسألهم بعناية؛ اختر من يحب مجاله ويعشقه ويبث روح الأمل والتفاؤل، ويدرك أهمية ما يحمله من علم ورسالة، اختر من يفتخر بمجاله ويتخذه طريقاً لخدمة أهله ووطنه ودينه، وابتعد أبداً عن سؤال الذين يبثون الإحباط وينثرون الأرض مصاعب وآلاماً، الذين يظنون مجالهم هو الأصعب والأشقى؛ وعندما يُسألون عنه يبدؤون بالشكوى والنحيب وأنهم يلقون ألوان الصعاب، وقد يكون كلامهم حقيقياً وشكواهم مقنعة؛ ولكن هذه ليست نفسية الشغوف العاشق لمجاله، فابتعد عنهم.
وتذكَّر أن التجربة خير دليل، والرجوع عن الطريق غير المناسب لك خير قرار.
استعِن بالعالِم الخبير
اسأل الله الطريق واستعن به على عقباته، إن الله يرشد القلوب الصادقة ويؤتي النفوس المتطلعة إلى الأفضل الباحثة عن الطريق الصحيح، التي تجتهد فتتوكل على خالقها، وتنجحُ فتحمد رازقها، التي تأبى السير في طريق شغفها إلا لخدمة دينها وأمّتها وأوطانها، وتدرك استخلاف الله لها في أرضه فتسعى بجهدها وعملها وطاقتها في الطريق الذي ارتضته لنفسها واستعانت بربها عليه، قال تعالى: "إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً"، حاشاه الله أن يراك مجتهداً باحثاً عن طريقك، تدعوه سلامة الخُطَى وإخلاص النية؛ حاشاه ألا يهديك ويرشدك ويعطيك فلا يردّك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.