لم يكن اللقاء معلناً، ولم تعرف به وزيرة خارجيته، ولم يكن داخل حدود بلاده، بل كان في دولة وسيط، أوغندا تحديداً، والتي بكل تأكيد لعبت دوراً جيداً في ترتيب اللقاء، فأوغندا بالنسبة للسودان دولة مهمة لأنها شهدت صعوداً وهبوطاً، غير أن تلك العلاقة تحولت جذرياً منذ بداية القرن الحالي وشهدت تقارباً واضحاً بين البلدين، فقد كان التقارب في هذه الفترة فرصة كبيرة للسودان للخروج من حالة العزلة الإقليمية والدولية المفروضة بفعل العقوبات الأمريكية.
لقاء رئيس مجلس السيادة في السودان الفريق أول عبدالفتاح البرهان في عنتيبي لم يخرج عن هذا الإطار، محاولة الخروج من العزلة التي تعيشها السودان، وعلى الرغم من الوعود التي أخذها رئيس المجلس السيادي أثناء زيارته واشنطن، فإن هذه الوعود فيما يبدو حُملت على طائر تطبيع العلاقات السودانية مع الكيان الصهيوني، وهي النصيحة التي يسديها محمد بن زايد لكل مَن يريد حكم بلاده، بدأ بها مع محمد بن سلمان، ثم رتبها للسيسي، والآن يدفعها إلى البرهان، الطامح رغم الاتفاق الذي أبرم مع الثوار ورغم تنصيب عبدالله حمدوك رئيساً لوزراء الثورة.
لم يعلن البرهان عن لقائه بنتنياهو، لكن الأخير كشف الزيارة رغم سريتها، كما ظن البرهان، ففي تغريدة له على حسابه بتويتر كتب نتنياهو: "التقى رئيس الوزراء نتنياهو اليوم رئيس مجلس السيادة في السودان الفريق أول عبدالفتاح البرهان في عنتيبي بأوغندا بدعوة من الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني واتفقا على إطلاق تعاون سيؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين".
وأضاف نتنياهو في تغريدة أخرى شارحة وكاشفة: "يؤمن رئيس الوزراء نتنياهو بأن السودان تسير في اتجاه جديد وإيجابي وعبر عن رأيه هذا في محادثاته مع وزير الخارجية الأمريكي، يريد رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان مساعدة دولته في الدخول في عملية حداثة وذلك من خلال إخراجها من العزلة ووضعها على خريطة العالم".
بقراءة صغيرة في التغريدتين اللتين كتبهما نتنياهو، وتوقيتهما نعرف أن الكيان الصهيوني بدأ بالفعل تنفيذ صفقة القرن، في شق التطبيع العلني مع الدول العربية، وأراد أن يحرز هدفاً معنوياً في المنظومة القيمية لدى الشعوب العربية الرافضة للتطبيع وصفقة القرن، والرسالة الثانية للداخل السوداني من خلال الإعلان عن مكان اللقاء، أوغندا، صاحبة الفضل على السودان في محاولات إخراجها من عزلتها، وهو ما يفهمه نتنياهو جيداً، وهو ما أراد تمريره للبرهان حتى يبرر اللقاء، وهو ما يمكن فهمه من خلال التغريدة الثانية حين قال: "يريد رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان مساعدة دولته في الدخول في عملية حداثة وذلك من خلال إخراجها من العزلة ووضعها على خريطة العالم"، وهنا رسالة للداخل السوداني من ناحية وللأمة العربية من ناحية أخرى، إذ إن الرجل يقول بكل صلف إن الحل والرفاه والحداثة والتقدم بيدنا نحن الصهاينة، ومن أراد الاستقرار والتقدم فعليه أن يمد يد العون لنا، فنحن مفتاح هذه المنطقة وباب الرفاه فيه، وعلى من يرغب في العيش الكريم أن يطرق بابنا، وكأن كلمة الرئيس السادات (99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا) حولها نتنياهو بأن كل أوراق اللعبة بيد تل أبيب.
على الرغم من أن البرهان لم يعلق على اللقاء، لكن أبواقاً خرجت لتقول ما على البرهان أن يلتقي نتنياهو؟ البرهان يريد إخراج السودان من عزلتها، البرهان يريد الرفاه لبلاده، البرهان لم يجرم فهو يريد أن يسير في الفلك الإقليمي وأن يدور مع دوران المجتمع الدولي، البرهان يريد الخير للسودان، البرهان لا يريد أن تجوع السودان، البرهان يريد الاستقرار للسودان.
المكاسب الصهيونية كثيرة من اللقاء، فالسودان بلد كبير وبه خيرات كثيرة، وسوق يستوعب المنتجات الصهيونية وتكنولوجيتها، وموقعها استراتيجي، وكان فيما مضى داعماً للمقاومة في غزة، فقد كانت رحلة السلاح تمر عبر أراضيها من ليبيا أو من خزائنها مباشرة، لقد استطاعت الأوضاع الأخيرة في السودان إزاحة الإسلاميين القابعين -على حد قولهم- فيها منذ 30 عاماً، وعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني ركّع البشير في آخر أيامه لكنه لم يأمن جانبه، والآن الفرصة سانحة بعد تولي العسكر مقاليد الأمور، ورغبة البرهان الجامحة لحكم السودان، وتقديم ابن زايد له على أنها المخلص الأمين على مصالح الكيان الصهيوني في القرن الإفريقي، وقاعدة متقدمة للكيان الصهيوني إلى الجنوب من مصر.
لكن الأزمة الحقيقية في لقاء البرهان – نتنياهو عند الفلسطينيين الذين يخسرون كل يوم حليف أو صديق أو حتى محايد، وتتسع دائرة النار حولهم، ولا حل لهم إلا أن يتحركوا بثورية نحو الشعوب لإيجاد متنفس لهم بخلط الأوراق، أما لو بقوا متقوقعين في 360 كم مربع فإن الخناق سيضيق ليجدوا في يوم من الأيام نتنياهو يتناول العشاء في دير البلح.
كاتب وباحث سياسي، حاصل على ليسانس الحقوق وماجستير في القانون العام.
كما حاز على دبلوم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، وهو الآن عضو مجلس إدارة رابطة الإعلاميين بالخارج في اسطنبول ومدير مركز دعم اتخاذ القرار بحزب الوسط المصري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.