في ليلة من ليالي الشتاء، وبعد أقل من عامين على انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، جلست مع أحد المثقفين – هكذا حسبوه علينا– المعروفين بعدائهم لما يسمى بالإسلام السياسي، وطرحت رؤيتي المتعلقة بضرورة اصطفاف جميع مكونات ثورة يناير ضد الديكتاتورية العسكرية الحاكمة.
كانت المراوغة عنوان الحوار، وكان التحيز الأيديولوجي والنقمة على الإسلاميين واضحين في كل فكرة وكل جملة بل كل حرف!
وكان الحل البديل المطروح (أعني بديلاً عن اصطفاف قوى الثورة ومواجهة الانقلاب العسكري لإسقاطه) هو أن يعمل كل فصيل مستقلاً، وأن يعمل التيار الآخر (يقصد التيار المدني) بين الناس، بين الجماهير، لكي يصبح لهذا التيار جذور اجتماعية بين الناس، وبعدها يمكن أن يحدث التغيير.
لم أجد إجابة عن أسئلتي المنطقية التي طرحتها بعد طرح تلك الرؤية المثالية، أسئلة مثل (هل الأجواء في مصر اليوم تسمح بأي عمل بين الجماهير أصلاً؟ من الذي يجرؤ على النزول للجماهير اليوم في ظل هذه القبضة الأمنية؟ إذا افترضنا أننا بدأنا في هذا الطريق فكم يستغرق "استزراع" هذه الجذور الاجتماعية؟ لماذا لم نبدأ قبل ذلك أصلاً؟ هل هذا الحل عملي فعلاً؟ ألم يثبت أن لنا جذوراً اجتماعية بالفعل؟ كيف صوّتت لنا الجماهير وسارت في تظاهراتنا بالملايين ونحن لا نملك جذوراً؟) وإلى آخر هذه الأفكار والأسئلة المنطقية.
غالبية من حضروا هذه الجلسة إما في المنفى، وإما في السجن، وما زال المثقف المزعوم جالساً في مقهاه، فلا هو أيّد فكرة الاصطفاف أو طالب بتعديلها مثلاً، ولا هو رمى بذوراً تؤدي إلى تلك الجذور الاجتماعية، بل لزم الصمت في أغلب الأحيان، بل إنه يظهر من وقت لآخر مؤيداً الديكتاتورية العسكرية في بعض مواقفها! "
أستغرب.. عن أي خطاب تتحدثون؟
حين رأيت الحديث مستعراً عما يسمى "تجديد الخطاب الديني" تذكرت صديقي الذي حدثني منذ خمس سنوات في مصر عن (الجذور الاجتماعية) للتيارات السياسية غير الإسلامية، تلك الجذور التي قرر البعض أن يستنبتها تحت أسوأ ديكتاتورية مرّت بمصر منذ العصور الوسطى!
البعض يتحدث عن تجديد الخطاب الديني وكأنه سيبدأ من الصفر، وكأن الأمة الإسلامية لم تعرف معنى التجديد طوال القرون المنصرمة، بينما مسيرة التجديد حدثت خلال تاريخنا عدة مرات، وفي عصرنا الحديث بدأت مسيرة التجديد منذ قرن أو أكثر.
عن أي تجديد تتحدثون؟
إنه لأمر جلل!
تتحدثون عن تجديد الخطاب الديني في ظل مناخ لا يسمح لأكبر الباحثين بانتقاد أمين شرطة.
البعض يظن أن هذا التجديد يمكن أن يحدث بمعزل عن عناصر الحياة الاجتماعية والسياسية، ينظرون إليه مثل مشاريع الطرق والجسور التي تقوم بها بعض الدول على طريقة الـ(بي أو أو تي)، إنه تجديد (سبيشال) بإمكانك أن تدفع ثمنه، كطريق مختصر، أشبه بـ(شورت كات) بين التراث والحداثة، طريق يقدمه لك النظام العسكري الذي يرعى مصالح الدنيا والدين، وكله لوجه الله طبعاً!
في هذا المناخ.. بإمكانك أن تنتقد البخاري ومسلم دون أن تمتلك أدنى المؤهلات العلمية لهذا الأمر، بإمكانك أن تلعن التراث من أوله لآخره، بحلوه ومره، بخيره وشره، بإمكانك أن تشكك في كل المقدسات، وأن تعلن عمالتك لأعداء الأمة جهاراً نهاراً. ولكنك ستذوق الويل لو لمّحت خلال انتقادك إلى دور الدولة في نشر الخطاب الديني الرجعي لأنه يؤيد الحاكم في كل ما يفعل، أو دور الدولة في نشر التطرف والإرهاب من خلال إجراءات نعلمها جميعاً، أو من خلال استثمار الدولة في البنية التحتية للإرهاب لإطلاق وحش الجماعات الإرهابية في وجه الشعب إذا قرر في لحظة ما أن يطالب بأبسط حقوقه السياسية والاجتماعية.
بإمكانك اليوم أن تهدم كل المقدسات تحت لافتة (تجديد الخطاب الديني) وأنت في حقيقة الأمر تهدم الدين ذاته، وأنت تقطع الطريق على المتخصصين القادرين على القيام بتجديد الخطاب الديني فعلاً، كل ذلك إرضاء للسلطة السياسية التي ترى في تجديد الخطاب الديني خطراً وجودياً عليها، لأن أول ما سوف يحدث إذا تم هذا التجديد هو أن يعلم الناس أن المعنى الحقيقي لكلمة (لا إله إلا الله) هي أنهم ليسوا عبيداً لحاكم، وليسوا غنماً في مزرعة الجنرال، وأن مقاومة الظلم واجب على كل فرد، وأن مقاومة المستعمر المحلي هي أول ما ينبغي للمسلم الحق أن يقوم به، وأن الإنسان – كل إنسان – له حقوقه في الوطن بغض النظر عن دينه أو لونه أو جنسه أو عنصره أو مستواه المادي.. إلخ.
المشهد المضحك المبكي
في هذا الإطار.. رأيت المشهد المضحك – أو المبكي – الذي جرى بين من يسمى (الخشت) وبين شيخ الأزهر أحمد الطيب، فالحوار من أوله لآخره لا علاقة له بالعنوان الكبير الذي نحاول أن نراه من خلاله – أعني التجديد المزعوم – ولا يوجد في المتحدثين من هو مؤهل للخوض فيه.
إنه حوار أو جدل (هذر بمعنى أدق) سياسي بامتياز، بين مخبر يعتلي المنصة، ويتقرب إلى من عينّه رئيساً لجامعة القاهرة، وهو أجهل من دابة، وبين شيخ الأزهر الذي رد ردوداً "سريعة التحضير" لا يحتمل المقام أكثر منها، فاحتفى بها وبه الناس لكي يشمتوا في مندوب أمن الدولة الجاهل الذي يحاول أن يتهجم على الدين تقرباً لمولاه.
الاحتفاء المبالغ به بشيخ الأزهر طبيعي، ولو أن رأس النظام وقع على الأرض بسبب "قشرة موز" لاحتفينا بها شماتة فيه.. وهذه عادة مصرية موغلة في القدم!
الخلاصة: في دولة المقصلة.. عن أي خطاب وأي تجديد تتحدثون؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.