لم يلق إعلان ترامب لما سماه خطة السلام في الشرق الأوسط والمعروفة إعلامياً بـــ"صفقة القرن" اهتماماً إعلامياً بالقدر الذي حظي به الإعلان في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من نقل وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية وقائع إعلان الخطة ونقل التصريحات الرسمية لترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وتسليط الضوء على الحضور العربي ممثلاً في سفراء الإمارات والبحرين وعُمان في واشنطن وبعض تصريحات جاريد كوشنر مهندس الصفقة، إلا أن هذا كله لم يحدث زخماً كبيراً يوازي جسامة وخطورة الخطوة. الأمر الذي يطرح تساؤلاً عن مدى الاهتمام الأمريكي على مستوى مؤسسات التمثيل الشعبي كالكونغرس بشقيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ ومدى أهمية القضية الفلسطينية لدى السياسيين الأمريكيين ومدى إدراك المجتمع الأمريكي لدور هذه القضية في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وانعكاس ذلك على الموقف من ترامب داخلياً.
جاء إعلان خطة ترامب أمس متزامناً مع استمرار جلسات محاكمته في الكونغرس والتي شهد اليوم الثالث للمثل الدفاع عنه أمام مجلس الشيوخ، وهو كان أحد العوامل الرئيسية لتناقص الاهتمام كثيراً بإعلان خطة ترامب على المستوى الداخلي، فقد سيطرت الجلسة والحديث عن كواليس ما يجري على مساحات البث المباشر طوال اليوم وكانت هي القضية المركزية والمحورية، هذا مع معرفة الجميع أن المحكمة في نهاية الأمر استمرار لكل ما قيل قبل ذلك في الكونغرس وأنها لن تؤدي في النهاية لعزل ترامب لترابط موقف الجمهوريين حتى الآن، وهو أيضاً استمراراً لفكرة اهتمام المواطن الأمريكي بالقضايا المحلية بشكل يفوق كثيراً أي قضية تتعلق بالسياسة الخارجية.
لذلك فالحديث عن اتجاه ترامب للإعلان عن هذه الصفقة الآن للتزامن مع محاكمته لا أذهب إلى صحته، فالرجل واثق من كونه لن يعزل، فضلاً عن أن النقاشات حول المسألة الأوكرانية والاتهامات الموجهة له قد قتلت بحثاً ولا تشكل خطورة على موقفه القانوني حتى الآن، فضلاً أن مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني قد أحدث الزخم المطلوب لترامب خاصة بعد عدم وجود رد قوي من إيران.
ومن هنا يمكن القول إن خطة ترامب للسلام، هي استثمار من نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي واليمين الصهيوني في أمريكا لوجود شخص مثل ترامب على رأس أكبر دولة وأكبر حليف لإسرائيل في العالم، للسعي لتصفية القضية الفلسطينية، فترامب وإدارته الحالية، لا يسعيان لأي تسوية حقيقية حتى لو كانت ذات إنحياز لإسرائيل مثلما حاول سلفه أوباما أن يفعل وكل الرؤساء السابقين الذين دائماً ما كانوا يؤجلون قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو ما فعله ترامب بكل سهولة ويُسر.
لذا فإن الاستفادة التي ستعود على ترامب ليس التشويش على محاكمته، ولكن كسب ود اليمين الصهيوني واللوبي الإسرائيلي في أمريكا وكسب دعمهم من أجل رغبة في تطبيق عملي وفعلي على الأرض أو حصد مزيد من المكاسب، فيما يظهر المسألة بوصفها صفقة تليق بسمسار عقارات.
لذلك فإن التعجيل بإعلان الصفقة ربما كان دافعاً إسرائيلياً، لاسيما نتنياهو المنتهية ولايته والتي يواجه اتهامات ومحاكمات بالفساد في إسرائيل ويسعى لتقديم ما يعده إنجازاً تاريخياً أمام الإسرائيليين.
لكن ماذا عن خصوم ترامب من الديمقراطيين؟
لا يعد الخلاف بين ترامب والديمقراطيين أو الحزب الجمهوري والديمقراطي حول القضية الفلسطينية ملحوظاً فربما أكثر شيء رئيسي يجمع الديمقراطيين والجمهوريين هو الدفاع عن أمن إسرائيل، ويشهد مؤتمر "الإيباك" السنوي والتي تعد أكبر منظمة تابعة للوبي الصهيوني على حالة التوحد هذه حيث يحضره كل قادة الحزبين وأبرز سياسييهم ومنظريهم.
وعبارات مثل دعم إسرائيل والدفاع عن أمنها، والعلاقات الراسخة وزيادة المساعدات أو عدم المساس بها هي عبارات محورية لدى أي سياسي أمريكي، لذا فإنه على الرغم من وجود أصوات قليلة معارضة لهذه الصفقة من مرشحين رئاسيين هما بيرني ساندرز وإليزبيث وورن من خلال تدوينات نشراها أمس على تويتر، محذرين منها، إضافة إلى النائبتين المسلمتين إلهان عمر ورشيدة طليب، إلا أن ذلك لا يعكس موقف ديمقراطي حزبي أو يعكس تياراً واسعاً يتعامل مع هذه القضية "كصراع" رئيسي، وهو ما لا تعكسه أية أصوات جمهورية ككريس فان هولن في مجلس الشيوخ.
وعلى الرغم من أن الكونغرس في ميزانيته لعام 2020 والتي أقرت في ديسمبر/كانون الأول الماضي قد رفض إنشاء صندوق دبلوماسي لدعم وترويج خطة السلام بقيمة 175 مليون دولار تقدم بها البيت الأبيض، وهي الميزانية التي تقر بواسطة الحزبين وبالتوافق بين نوابهما، إلا أن الرفض لم يكن لسباب سياسية وإنما لأسباب مادية تتعلق بعدم معرفة موعد الإعلان عن الخطة.
ويمكن ملاحظة أن أي خلاف حول القضية الفلسطينية لا يمكن أن يحدث احتدام في المواجهة بين ترامب وخصومه، هو ردود الأفعال بين أوساط قادة الديمقراطيين حينما أعلن ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فعلى الرغم من جذرية القرار ودلالته ورمزيته في الانحياز وتأجيج الأوضاع في الأراضي الفلسطينية ومخالفته للإجماع الضمني في المجتمع الدولي على رفض الخطوة إلا أنه لم يلق تلك الممانعة من قادة الديمقراطيين في الكونغرس الأمريكي أو اعتُبر بعد ذلك نقطة خلاف جوهرية أو جذرية بين الديمقراطيين والجمهوريين، بل إن القرار بالأساس كان صادراً من الكونغرس نفسه عام 1995 وقام بتأجيله كل الرؤساء الثلاثة السابقين، كلينتون وبوش وأوباما.
لذا فإن خلاصة القول إنه حتى لو كانت هناك مواقف فيها قدر من الانحياز الأخلاقي أو الرافض للانحياز المؤدي لتأجيج وتفجير الأوضاع الذي قد يؤدي لتضرر صورة الولايات المتحدة أو مصالحها، إلا أن أصحاب تلك المواقف سواء بعض المنظمات الأهلية أو بعض السياسيين ليست لديهم القدرة على مواجهة آلة اللوبي الصهيوني، ولا يمكن أن يأخذوا مواقف جذرية ضد الانحياز لإسرائيل داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم لا ضرر على ترامب مما أقدم عليه، وهو ما يعززه عزوف المواطن الأمريكي عن الانشغال بالقضايا الخارجية ووضعها في نهايات سلم أولوياته السياسية حتى مع تزايد نسبة المواطنين الأمريكيين لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى 50% حسب مركز غالوب لاستطلاعات الرأي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
عبدالرحمن يوسف هو صحافي مستقل مقيم في واشنطن، مهتم بالشؤون السياسية والاقتصاد الكلي والتيارات الدينية وقضايا اللاجئين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.