لا أحد يستطيع ألا يفكر في السياسة اليوم، إنها تقتحم غرفة نومك ومكتبك، لذا لا أحاول الكلام في السياسة، السياسة هي التي تأتي إلي.
الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق
هكذا يخبرنا العراب عن اقتحام السياسة عوالمنا الصغيرة. نبدو وكأننا نحن الذين اقتحمنا عالم السياسة الملغوم، لكن في الحقيقية أن السياسة هي التي تأبى ألا تنفجر ألغامها إلا في وجوهنا، فيبدو المشهد وكأننا فاعلون في تفاصيله لكن الحقيقية أننا لم نكن إلا رد فعل منطقياً لما يحدث حولنا.
الرياضي المحترف هو إنسان طبيعي يمتهن لعب إحدى الرياضات، تلك الحقيقية البسيطة الواضحة يتحتم علينا ذكرها في البداية. فما ستقرأه من قصص لا علاقة لها بالسياسة في المقام الأول بل بأشخاص عاديين تماماً اقتحمت السياسة عوالمهم سواء داخل ملعب كرة القدم أو خارجه فكانت تلك القصص هي ردود أفعال قد تتفق معها أو ترفضها، وهو الأمر المنطقي طالما اقتحمت السياسة عالمك أنت الآخر.
حسناً يبدو من المقدمة التي قرأتها لتوك أنك لن تقرأ قصة البرازيلي سقراط أو جورج ويا، فهؤلاء كان لديهم مواقفهم السياسية الواضحة، لكن ماذا عن بوبان. يبدو زفونيمير بوبان مثالاً جيداً نحو حديث أوضح.
زفونيمير بوبان: ركلة من أجل الاستقلال
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تشكل ما يعرف باسم يوغوسلافيا الاتحادية علي يد الجنرال تيتو وذلك بمزج عدداً من الهويات والجنسيات المختلفة مثل كرواتيا وصربيا وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا والبوسنة. رحل تيتو عام 1980، وبدأ الصدع في هذا المزج الجغرافي، لتطالبَ كل دولة باستقلالها.
في 13 مايو/أيار 1990، أقيمت مباراة بين فريق "رِد ستار بلغراد" الصربي وفريق "دينامو زغرب" الكرواتي على ملعب الأخير. حتمت الظروف السياسية لتلك المنطقة أن تكون تلك المواجهة قومية من المقام الأول، كان ذلك واضحاً من حرب الشوارع التي اندلعت قبل بداية المباراة وهو ما لم يتوقف داخل الملعب أيضاً.
توقفت المباراة بعد عشر دقائق فقط بسبب تصاعد مشاهد العنف في المدرجات ثم انهار الأمر تماماً باجتياح الجماهير لأرض الملعب. وفي منتصف الملعب تماماً رأى اللاعب الكرواتي زفونيمير بوبان أحد أفراد الشرطة والذي كان يحمل الجنسية البوسنية يضرب بهراوته أحد المشجعين الكروات. ركض بوبان نحو هذا الشرطي ثم طار في الهواء موجهاً قدمه نحو الشرطي.
أصبحت ركلة بوبان رمزاً هاماً في قضية استقلال كرواتيا، والذي تم بعد عام واحد من تلك الركلة. لم يكن ما فعله بوبان شيئاً من السياسة، ولكن السياسة هي التي انفجرت داخل ملعب كرة القدم فقرر بوبان أن يركلها بقدمه أقصى ما يستطيع. ماذا لو كنت بوبان ولم تكن لاعب كرة قدم هل كان موقفك سيصبح مغايراً، أنت وحدك تملك الإجابة.
إن كانت ركلة بوبان أشعلت حرباً كرواتية نحو نيل الاستقلال فكلمات دروغبا أخمدت حرباً أهلية أخرى هناك في ساحل العاج.
دروغبا: ما يريد أن يقوله المواطنون قاله لاعبو كرة القدم
في عام 2002، اندلعت أول حرب أهلية في ساحل العاج والتي تركزت حول الهوية الوطنية. حُرم الناس من الجنسية الرسمية إذا لم يتمكنوا من تقديم وثائق تفيد بأن آباءهم وأمهاتهم قد ولدوا في ساحل العاج. وخلال السنوات التالية تأججت نيران الحرب الأهلية الدموية في ساحل العاج، وأسفرت عن مقتل ما يقرب من 4000 شخص وتشريد أكثر من مليون شخص آخر.
أوجه حديثي إلى الرجال والنساء من ساحل العاج، من الشمال والجنوب والوسط والغرب. لقد أثبتنا اليوم أنه يمكن لجميع الإيفواريين التعايش واللعب معاً بهدف مشترك وهو التأهل إلى كأس العالم. لقد وعدناكم بأن الاحتفال سيوحِّد الناس. واليوم نرجوكم أن تسامحوا. سامحوا، سامحوا. لا يجب أن تنحدر الدولة الوحيدة في إفريقيا التي تملك هذا الكم من الثروات إلى حرب أهلية من هذا القبيل. من فضلكم، ألقوا جميع الأسلحة ليتم إجراء الانتخابات والكل سيصبح أفضل.
ديدييه دروغبا القائد التاريخي لمنتخب ساحل العاج
ساعد خطاب دروغبا في إقناع الحكومة وقوات المعارضة بوقف إطلاق النار واستئناف محادثات السلام. في أوائل عام 2007، وقع الجانبان المتحاربان اتفاق سلام رسمياً.
هل ما تحدث به دروغبا كان بناء عن دراسة للموقف السياسي للبلاد، بالطبع لا بل كان حديث العقل الذي جرى على لسان رجل استطاع أن يستفيد من بقعة الضوء الملقاة عليه كونه أحد أهم لاعبي كرة القدم في تاريخ إفريقيا. كان حديث دروغبا له الأثر في توقف مقتل آلاف جدد، لكن من قال إن الحرب وحدها ينتج عنها القتل. العنصرية والخوف والإرهاب أيضاً كان لهم موقف هام مع كرة القدم. دعنا نذهب لإنجلترا حيث زاد الوعي السياسي دون أن يدري أحد أن هذا جزء هام من السياسة.
زيادة الوعي ونماذج التعايش
زاد الوعي كثيراً عند لاعبي كرة القدم وأصبح حديث اللاعبين عن المواقف السياسية والاجتماعية أكثر عمقاً من السابق. ربما كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور بارز في ذلك، حيث أصبحت مواقع مثل فيسبوك وتويتر منصات يتحدث من خلالها لاعبو كرة القدم إلى معجبيهم بعد أن كانت أراء اللاعبين حبيسة الغرف المغلقة لسنوات.
ينظر دوماً للاعب كرة القدم كونه شخصاً غير مؤهل للمشاركة بآرائه السياسية، لكن من قال إن السياسة تخص المتخصصين بها وحدهم. فلاعبين مثل هيكتور بيلليرين ورحيم ستيرلينغ لهم مواقف وتصريحات واضحة تجاه قضايا مثل الإجهاض والعنصرية، وعلى الجانب السياسي يبدو المصري محمد صلاح له تأثير قوي وإن كان غير مباشر.
كشفت دراسة حديثة من جامعة ستانفورد أن جرائم الكراهية ضد المسلمين قد انخفضت بنسبة 18.9٪ في مدينة ليفربول منذ انضمام المصري المسلم محمد صلاح لصفوف الفريق. كما انخفضت تغريدات الإسلاموفوبيا من مشجعي نادي ليفربول إلى النصف مقارنة بالفرق الأخرى. لم يتحدث محمد صلاح بشيء من السياسة، لكن من خلال وجوده فقط جعل الناس يشككون في تحيزاتهم.
تأثير صلاح هو تأثير في صميم السياسة ويحدث كل يوم عن طريق نماذج أخرى في مجالات أخرى، لكنها غير منتشرة في العالم، وهذا هو الفارق بين لاعب كرة القدم والشخص العادي. لا يختلف لاعب الكرة عن بقية الناس سوى في بقعة الضوء المسلطة عليه والتي قد تهيأ للبعض كونه جزءاً من حدث سياسي ما رغم أنفه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
محمود عصام هو كاتب رياضي، يكتب عن الكرة بعيدًا عن الأرقام والإحصائيات، عن الكرة التي ما زالت تُلعب في الشارع بشغف طفولي لا يمكن التخلص منه أبدًا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.