الإخوان والرئيس.. بين التجني والتشنج! (4-5)

عدد القراءات
2,908
عربي بوست
تم النشر: 2020/01/28 الساعة 15:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/28 الساعة 15:56 بتوقيت غرينتش

ضوابط البنا للوصول إلى الحكم

يقول الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول، في "رسالة المؤتمر الخامس"، تحت عنوان "الإخوان المسلمون والحكم":

"قد يكون مفهوماً أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا مِن أهل التنفيذ إصغاءً لأوامر الله، وتنفيذاً لأحكامه، وإيصالاً لآياته ولأحاديث نبيه، وأما الحال كما نرى: 

   التشريع الإسلامي في وادٍ، والتشريع الفعلي في وادٍ آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية، لا يكفرها إلا النهوض، واستخلاص قوة التنفيذ (السلطة) من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف". 

ويستطرد الشيخ البنا:

"هذا كلام واضح، لم نأتِ به من عند أنفسنا، ولكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف. وعلى هذا، فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء، وأداء هذه الأمانة، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني، فَهُم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله. 

وعلى هذا، فالإخوان المسلمون أعقل وأحزم، من أن يتقدموا لمهمة الحكم، ونفوس الأمة على هذا الحال، فلا بد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يُؤثِر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة".

مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا

هذا الاستدراك من الشيخ البنا على نفسه، وعلى الإخوان من بعده، يدل على فهم عميق لمتطلبات الحكم، ويدل على وعيه الكامل بأن استعداد الناس لتحكيم الإسلام فيهم سابق -بالضرورة- على التفكير في استخلاص الحكم "من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله". ومن ثم فقد صاغ -رحمه الله- رؤيته الدعوية المتدرجة، من تكوين الفرد المسلم، إلى الأسرة المسلمة، إلى المجتمع المسلم، إلى الحكومة المسلمة، فالدولة الإسلامية، ثم الخلافة الإسلامية، وصولاً إلى أستاذية العالم، وفي ذلك تفصيل.

على هذا الأساس المنطقي عارض المعارضون (من الإخوان) منافسة الإخوان على السلطة؛ إبان انتفاضة يناير (كانون الثاني) 2011، التي أطاحت بمبارك، فالأفراد المؤمنون بالإسلام عقيدةً ومنهاجَ حياة لا يزالون يشكلون أقليةً صغيرة جداً في المجتمع، أما السواد الأعظم فمسلمون بالوراثة، لا يعون كثيراً من أحكام الإسلام، ولا يلتزمون بها في حياتهم اليومية، ولم يتعلم الشعب بعدُ "كيف يُؤثِر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة"، بحسب تعبير الشيخ البنا. لكن قيادة الإخوان المسلمين كانت لها حساباتها ومبرراتها التي جعلتها تتقدم للمنافسة على الحكم، وبهذا القرار تكون هذه القيادة قد حرقت مرحلة "المجتمع المسلم"!
بمعنى أنها تعجّلت، فلم تجد -بطبيعة الحال- ذلك المجتمع المستعد لحماية النظام الذي أعلن التزامه بالإسلام. وبالنظر إلى مآلات هذا القرار فإنه ينبغي أن نقرّ ونعترف بأن حسابات ومبرّرات قيادة الإخوان المسلمين في هذا الصدد لم تكن سديدة، وأن الظرف لم يكن مواتياً -أبداً- للدخول في هذا المسار، ما يعني أنه من الظلم الفادح تحميل الرئيس مرسي مسؤولية عدم صمود نظامه المنتخب، أمام العواصف والأنواء المحلية، والإقليمية، والدولية.

لماذا نجح الانقلاب على الرئيس؟

هنا يجب التنويه إلى أن نجاح الانقلاب على الرئيس محمد مرسي لا يعود إلى فشله كما يروِّج البعض، أو ضعفه كما يعتقد البعض الآخر، وإنما يعود، في تقديري، إلى سببين رئيسيين:

السبب الأول: عدم وجود تصور مسبق لدى قيادة الإخوان المسلمين لإدارة مصر، وإهمالها الاستعداد والتأهيل لهذه اللحظة الحرجة، على مدى أربعين سنة خلت، أي بعد أن أخرجهم السادات من سجون عبدالناصر، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وحتى انتفاضة يناير 2011، ولا يُسأل الرئيس عن ذلك بأي حال. فقد رددت قيادات الإخوان المتعاقبة، في مناسبات مختلفة: "إن الإخوان المسلمين لا يتطلعون إلى الحكم، وليس لهم طمع في السلطة". وهذه مقولة صادقة ومنطقية إذا عرضناها على ضوابط الشيخ حسن البنا التي صدَّرتُ بها هذا المقال، لكن الشيخ البنا قال أيضاً: ".. فإن وجدوا (أي الإخوان) من الأمة من يستعد لحمل العبء، وأداء هذه الأمانة، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني، فَهُم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله".

وإني لأشهد بأن مناهج الإخوان المسلمين التربوية لم تكن صالحة لتكوين ذلك الفرد القادر على استخلاص الحكم مِن يد مَن لا يُنفّذ أوامر الله. وهذا موضوع كبير، يحتاج إلى تفصيل. 

السبب الثاني: عدم استيعاب الشعب لدوره في المحافظة على نظام الحكم الذي اختاره، فلا يسمح بالانقلاب عليه، كما حدث في تركيا، مساء 15 يوليو/تموز من عام 2015، بالإضافة إلى تغلغل ورسوخ صورة الحاكم الفرعون في وجدان الشعب، الذي لم يتقبل معها صورة الحاكم المتواضع الذي يتصرّف كموظف عام، يؤمن بحرية الرأي، ويتسامح مع المسيئين إليه، كما يحدث في البلاد التي تمرّدت على الحكم المطلق، وسحقته إلى الأبد.

ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا السياق إلى أربعة أمور، جعلت الإطاحة بالرئيس مرسي ضرورة وهدفاً استراتيجياً:

الأول: دخول الإخوان المسلمين على خط الثورة، فأصبحوا حجر عثرة أمام استيلاء العسكر على السلطة؛ لتنفيذ صفقة القرن التي رفضها مبارك، وهذه النقطة تحتاج إلى مقال مستقل.

الثاني: فزع الكيان الصهيوني، وحكومات الخليج، باستثناء قطر وعُمان، من تداعيات نجاح الإخوان المسلمين في حكم مصر، ونتائج ذلك النجاح سلبياً على وجودهم فيزيائياً.

الثالث: انزعاج أمريكا الشديد من عدم مرونة الرئيس مرسي في التعاطي مع الكيان الصهيوني، أو القبول بـ "التوصيات" الأمريكية بشأن توزيع المناصب العليا في مصر وصلاحياتها على شخصيات بعينها، قد ثبت لدى الرئيس عدم إخلاصها للبلاد. فكان على الإدارة الأمريكية أن تسأل نفسها: إذا كان هذا هو أداء مرسي وهو لم يتمكن بعد، فماذا سيكون أداؤه بعد أن يتمكن وينجح؟

الرئيس الراحل محمد مرسي

فقامت على الفور بالتنسيق مع وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي، من خلال رئيس الأركان الأمريكي، وكان الانقلاب المشؤوم. 

الرابع: حالة الهستيريا التي أصابت ما يُسمى بـ (التيار المدني)، فلم يتورّع عن استدعاء العسكر على الرئيس المنتخب ديمقراطياً لكونه ينتمي أيديولوجياً إلى ما يسمونه تيار الإسلام السياسي، الذي يعتبرونه ردة حضارية، وعودة لعصر الظلمات. فعمل هذا التيار على إثارة القلاقل طوال الوقت، وقدَّم كل العون للدولة العميقة وإعلامها وجيشها؛ لهدم التجربة الوليدة، حتى لو كانت النتيجة هي هذا الوضع البائس التي لم تشهد مصر مثيلاً له في تاريخها الحديث.

وأعود إلى السبب الأول لنجاح الانقلاب على الرئيس مرسي (رحمه الله)، وهو سبب لا يمكنني فهمه، ولا قبوله بأي حال. وذلك لارتباطه الوثيق بواقعة كنتُ صاحب المبادرة فيها، وأرى أنه من واجبي تسجيلها للتاريخ، وكذلك للاعتبار والاتعاظ بها مستقبلاً، من قِبَل الأجيال القادمة.

قبل الاستحقاق أو ملء الفراغ

هذا كان عنوان الورقة التي سلمتها يداً بيد للأستاذ إبراهيم منير، الذي يشغل -حاليا- موقع نائب المرشد العام للإخوان المسلمين، في حضور مدير مكتب لندن الأستاذ محمود الإبياري، وكلاهما حي يُرزق، أطال الله في عمرهما. كان ذلك في شتاء 2006، أي قبل انتفاضة 25 يناير 2011 بخمس سنوات كاملة.

 فعلامَ احتوت هذه الورقة؟

احتوت هذه الورقة على سؤالين، وتوصية بآلية الإجابة عنهما، وليس الإجابة نفسها، وقد طرحت السؤالين من منطلق فهمي لمصطلح "العدو الاستراتيجي"، وهو العدو الذي يكون الصراع معه صراعاً أبدياً ومفتوحاً، وإن تخللته فترات هدنة اضطرارية لالتقاط الأنفاس، أو إعادة التموضع، وترتيب الأوراق.

وفي اعتقادي، أنه منذ أن حرَّك الشيخ حسن البنا (كتائب المجاهدين) من الإخوان المسلمين باتجاه فلسطين لطرد العصابات الصهيونية منها، أصبح شخص البنا، وفكرته، وجماعته، عدواً استراتيجياً لدى دوائر الاستعمار قاطبة، وحتى كتابة هذه السطور.. الأمر الذي يعني أن القضاء على الشخص، والفكرة، والجماعة أصبح هدفاً استراتيجياً دائماً لهذه الدوائر، أو عدم تمكينه من استكمال مشروعه، إذا تعذر القضاء على هذا المثلث. وهنا يجب التذكير بأن اضطهاد جماعة الإخوان قد بدأ بعد عودة كتائبها المجاهدة من فلسطين مباشرة، وكان أول الضحايا حسن البنا، الذي أطلق عليه الرصاص أحد عملاء البوليس السري المصري، مساء 12 فبراير/شباط من عام 1949م، وتُرك ينزف دون إسعاف، حتى فاضت روحه!

وصدر قرار بحل الجماعة، ثم جاء عبدالناصر ليكمل المهمة، فنكّل بالإخوان تنكيلاً، ثم كانت هدنة السادات التي جاءت في صورة (اتفاق جنتلمان) غير مكتوب، استفاد منه السادات والإخوان على السواء، ثم استمرت الهدنة مشوبة بالتوتر، في عهد مبارك الذي تعامل مع ملف الإخوان طوال ثلاثين سنة، من منظور أمني. بمعنى أنه لم ينظر إليهم -أبداً- باعتبارهم كياناً يمارس العمل السياسي العلني، وفق القانون والدستور، وإنما عاملهم كمتآمرين على نظامه، طوال الوقت، وفق مفهوم العدو الاستراتيجي.

من ثم، فكرتُ كما لو كنتُ مبارك، كيف يمكنني تسديد ضربة ماحقة (شيك) للإخوان المسلمين، دون إراقة دماء؟

فكان السؤال الأول: ماذا لو استدرج مبارك الإخوان المسلمين، فشجعهم على خوض انتخابات "بلا تزوير"، بحجة بناء مصر جديدة، تتمتع بديمقراطية حقيقية، وكلفهم بتشكيل الحكومة بعد نجاحهم الساحق المتوقع. ثم عمد إلى تعطيل دواليب عمل هذه الحكومة، بما لديه من سلطات مطلقة، ليجد الإخوان أنفسهم بلا إمكانيات ولا صلاحيات في مواجهة الشعب؟!

وهذا ما كنتُ أعنيه بالاستحقاق، أي (الاستحقاق الانتخابي). وكان السؤال الثاني: ماذا لو سقط نظام مبارك، لأي سبب من الأسباب، وحدث فراغ في السلطة؟ وهذا ما أشرت إليه بـ (ملء الفراغ).

في أي من الحالتين، ماذا سيفعل الإخوان المسلمون؟ وكيف سيواجهون الموقف؟

هل هم مستعدون للقيام بأعباء هذا الاستحقاق الانتخابي إذا ما وقع؟ وكيف سيتعاملون مع ذلك الفراغ الذي قد ينجم عن سقوط النظام لأي سبب؟

طبعاً أنا لا أعلم الغيب، وحاشا لله أن أدعي ذلك، ولكن طرح هذين السؤالين كان من تداعيات بعض قراءاتي في علم "استشراف المستقبل"، الذي يقوم على طرح أسئلة تتعلق بالمستقبل، بناءً على معطيات وإرهاصات واقعية، ثم يبحث في الإجابة عنها.. هذا كل شيء.

لقد طرحت هذين السؤالين، ولم تكن لديّ إجابة عنهما؛ لأن هذا الأمر برمته لا يقع في دائرة اختصاصي، غير أني طرحت الآلية التي يمكن بواسطتها الحصول على إجابات شافية وافية، بل وسيناريوهات عملية واقعية، للتعاطي مع كلتا الحالتين اللتين تحققتا لاحقاً!

أما الآلية التي طرحتها فكانت ابتعاث نحو 80 شاباً وفتاة، لا تزيد أعمارهم عن 27 عاماً، للدراسات العليا، في أرقى الجامعات العالمية، بغية الإجابة عن هذين السؤالين، بعد تقسيمهم إلى مجموعات صغيرة (3-5) أفراد، تبحث كل مجموعة في مجال معين، على أن يكون هناك تنسيق بين المبتعثين جميعاً، ووضعت المعايير التي على أساسها سيتم اختيار هؤلاء الشباب، كما قدمت التكلفة المالية للمشروع، بمساعدة خبراء في التعليم ما بعد الجامعي.

ودار نقاش بيني وبين الأستاذ منير، تجاوز الساعتين، كان خلاله ودوداً راقياً كعادته، وكان من بين ما أكدت عليه خلال هذا اللقاء: "إن هؤلاء الشباب مبتعثون كي يوجهوا الإخوان، لا أن يوجههم الإخوان. أرجو إدراك ذلك".. فهم سيدرسون لسنوات ما يجب القيام به في أي من الحالتين، وسيضعون كل الاحتمالات والسيناريوهات المتوقعة لكل حالة، وسيتدربون على الإدارة المشتركة، وتصريف شؤون البلاد، وبناء مؤسساتها، وسيعرفون كيف ينسقون فيما بينهم؛ لتحقيق أفضل النتائج، في أسرع وقت.

محمود منير نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين

فهل خضع هذا الاقتراح للدراسة؟ 

الإجابة : لا أعرف.

أما النتيجة المؤكدة، فإنه لم يدخل حيز التنفيذ أبداً، والدليل على ذلك أننا لم نر له أثراً على الأرض، عندما كان يجب أن نراه، وأعني لحظة إلقاء كرة اللهب، أي الحكم في حِجر الإخوان المسلمين.

يُتبع..

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد عبدالعزيز
المستشار الإعلامي للرئيس المصري الراحل محمد مرسي
تحميل المزيد