حين سألني ابني.. لو حدثت حرب بين مصر وتركيا فمع من ستحارب؟

عدد القراءات
5,891
عربي بوست
تم النشر: 2020/01/23 الساعة 12:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/23 الساعة 12:32 بتوقيت غرينتش
teenager

أنهيت عملي في إحدى ليالي لندن الباردة والممطرة صيفاً وشتاء، بعد مناقشة حادة مع ضيوفي في البرنامج حول تطورات المشهد الليبي، وحالة النفير العام التي أعلنها الإعلام المصري ضد تركيا، وطبول الحرب التي تُقرَع على مواقع التواصل الاجتماعي، والتكهنات بمواجهة عسكرية مرتقبة بين مصر وتركيا داخل الأراضي الليبية. عدت إلى المنزل لأجدني بانتظار حوار أصعب ومناقشة أكثر حدَّة مع ضيف آخر يخطو خطواته الأولى نحو مرحلة المراهقة بعدما أتم العاشرة من عمره منذ أسابيع، سألني ابني الأكبر سؤالاً مفاجئاً: "مع من ستقف إذا ما حاربت مصر، تركيا في ليبيا؟".

لم يفاجئني السؤال؛ فأنا أعلم يقيناً مدى ارتباطه بتركيا وهو من عاش فيها أكثر مما عاشه داخل مصر، فقد قضى سنوات طفولته الأولى في مدينة إسطنبول، والتحق بمدارسها وتعلَّم لغتها، وتجوَّل في شوارعها، وعرف عن تاريخها ما لم يعرفه ويتعلمه ويعيشه في مصر. سافر طفلي من مصر ولم يكمل الرابعة من عمره، وكل ما يذكره عنها أن ثورة شارك فيها والده ثم انقلاباً طارد عائلته حتى وجد نفسه في بلد آخر، حيث شعر باﻷمان والدفء والشعور بالوطن، ثم وجد نفسه يرتحل للمرة الثانية في أقل من ست سنوات، ليستقر به الحال في العاصمة البريطانية لندن، ليصطدم بلغة أخرى وثقافة جديدة، وعادات وتقاليد لم يعلم عنها قبل ذلك شيئاً.

مرَّت لحظات من الصمت داخل البيت تبادلنا فيها النظرات، بحثاً عن إجابة للسؤال، فكيف سأجيب بأني سأقف مع مصر، وأنا أعلم يقيناً سيل الأسئلة الاستنكارية التي ستلاحق إجابتي الوطنية، ولكني استجمعت نفسي وقلت له: سأقف مع مصر بالطبع، فنظر إليَّ مستنكراً غاضباً، متسائلاً: ولماذا تقف مع مصر وهي من أخرجتك وحاربتك وطاردتك؟! وكيف تقف معها والسيسي هو من يحكمها؟! وأنَّى لك أن تترك تركيا ولا تدعمها وهي من استقبلتنا وآوتنا ووجدنا فيها ما لم نجده في مصر؟! ثم أعقب انفجاره العاطفي هذا بإجابة قاطعة عن سؤاله الأول، فقد اتخذ قراره وقرر دعم تركيا ضد مصر في هذه الحرب الوهمية إن حدثت، أجبته بأن مصر ليست السيسي وأنه راحل لا محالة وسيبقى لنا هذا الوطن.

أدركت حينها أن خطراً حقيقياً بات يواجهني كأب في ترسيخ مفاهيم تربوية تتعلق بالهوية والدولة والوطن، فلم يعد ذلك الطفل هو نفسه الذي كنت أحدِّثه عن مصر بهوائها وطقسها ومدنها الجميلة وتاريخها وشعبها ومساجدها، فإن حدثته عن مساجدها واجهني بمساجد تركيا وجمالها والاهتمام بها، وإن ذكَّرته بالغردقة وشرم الشيخ ردّها عليَّ بأنطاليا وبدروم وإزمير، إن حدثته عن التاريخ المصري ذكَّرني بتاريخ الخلافة العثمانية، أواجهه بالدراما والفن في مصر فيجيبني بأرطغرل وعثمان، وإن حاولت استلهام روح السيسي ومحاولة إقناع ولدي بأن الوطن يعني الحضن، فينطلق لسانه معبراً لي عن حضن تركيا الذي شعر بداخله بالأمان، ثم يُنهي هذا السجال دوماً بمقولته لي: لقد عشت في تركيا أكثر مما عشته في مصر.

منذ خروجي من مصر وأنا أحكي لأبنائي عن الوطن الذي عشقته أكثر من نفسي، وكنت على استعداد للتضحية بنفسي من أجله في ثورة يناير وما بعدها من أحداث جسام، وأنني ما تركته إلا مجبراً على الفرار بنفسي وديني من بطش الظالمين، ودائماً ما كنت أتحدث عن حلم العودة، وأننا لا نعمل إلا من أجل عودة قريبة إلى مصر. أحياناً أجد استجابة من الصغار وشغفاً لأحكي عن مصر والثورة وما عايشناه وعن أكثر الأماكن التي اصطحبتهم معي إليها، وأحياناً أخرى أشعر كأنهم لا يريدون سماع ذلك أبداً، يراودني حينها سؤال حول مفهوم الوطن لأطفال في مثل عمر أطفالي يعيشون خارج الديار قسراً وينتقلون من بلد إلى آخر، ما الأولوية هنا لربطهم بالوطن؟ هل الأفضل هي هوية الدين وأنه مسلم يعيش في الغرب؟ أم أن الهوية هي الجنسية الجديدة التي سيحصل عليها وتشجيعه على الاندماج والذوبان في مجتمعه الجديد؟ أم أن الأصل أن نظل ممسكين على الجمر ونداوم على غرس بذور الأرض والوطن وترابه في نفوسهم ونسقيها بماء المحبة والتضحية والوطنية ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؟

الانتقال إلى أوروبا، وتحديداً المملكة المتحدة، كان تحدّياً أكبر وأخطر، حقيقة، فيما يتعلق بما يعيشه أبنائي من ضبابية الفهم لطبيعة الوطن وارتباطنا به. وبعد نقاشات كبيرة سألت أبنائي: ما أكثر شيء يحبه والدكم في هذه الدنيا؟ فقالوا لي: "نحن بالتأكيد"، فقلت لهم: أنا أحب مصر أكثر منكم، فتعجَّبوا وقالوا: هل يمكن أن تحب شيئاً أكثر منا؟! فقلت: نعم، وبدأت شرح علاقة الأب والأم بأبنائهما، وغضب أحدهما من الآخر أحياناً، ولكنهما في رباط أبدي إلى يوم الدين، فألمس اقتناعاً حقيقياً منهم هذه المرة.

العاطفة أحياناً لديها مفعول السحر فيما يتعلق بإقناع الأطفال، ولكن المهمة يبدو أنها أصعب بكثير مما كنت أتوقع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسامة جاويش
مذيع بقناة الحوار
مذيع بقناة الحوار