ذهبت لامتحاني الجامعي فامتحنني الله بحمل أشلاء رفاقي.. عن مجزرة جامعة حلب أتحدث!

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/16 الساعة 12:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/16 الساعة 13:49 بتوقيت غرينتش
جامعة حلب

على عكس بقية الأيام التي اعتدنا عليها في مدينتي حلب، كان الخامس عشر من يناير/كانون الثاني 2013، يوماً صافياً مشمساً وبارداً لدرجة لا تُحتمل.

كالعادة استيقظت صباحاً عند الثامنة على صوت القذائف المدفعيّة التي تنهمر على حي بني زيد القريب من الحي الذي أسكن به "السريان الجديدة"، حضرت قهوتي على "ببور الكاز" الذي بتنا نستخدمه بدلاً من الغاز لانقطاعه عنا.

وعندما بدأت بارتداء ملابسي قرّرت ارتداء قميصي البُنّي الذي لم أرتده منذ عدّة أشهر، بسبب ارتباط ذكراه عندي بنذير الشؤم، خاصة أن آخر مرة ارتديته فيها كانت في إحدى المظاهرات التي اعتقلني الأمن فيها، ولكسر الشؤم، ولأُثبت لنفسي أنَّ الخرافات تبقى خرافات قررت ارتداءه فوق بنطال جينز فاتح اللون.

لست ممن يؤمنون فعلاً بالخرافات المرتبطة بالشؤم والنحس، ولو كنت كذلك لكنت اعتكفت في منزلي في كل أيام الثلاثاء، ففي حلب دائماً ما نربط يوم الثلاثاء بالشؤم، حتى إنّ بعض العوائل أصبحت تسمّيه الثلاثاء الأسود.

ولا أظنّ أن هذه التسمية لها علاقة بالثلاثاء الأسود، الذي سُمي بسبب يوم انهيار بورصة وول ستريت، ولكن دائماً ما كنت أسمع الناس يخافون من هذا اليوم.

ذهبت لامتحان جامعي.. فامتحنت بحمل أشلاء رفاقي

لا أخفيكم أن غالبية الناس في حلب في تلك الفترة كانوا متشائمين، لا يوجد غاز للطبخ، ولا مازوت للتدفئة، حتى إنّ جميع الأشجار في شارع منزلي قد تم قطعها لأجل التدفئة.

رغم ذلك لم يكن أشد المتشائمين في الحياة يظن أن يكون هذا اليوم تعيساً بهذا الشكل!

ذهبت من منزلي إلى كليتي في جامعة حلب "كلية الآداب والعلوم الإنسانية" التي تقع على بعد 4 كيلومترات من منزلي، أي نحو 45 دقيقة مشياً، لقد كان يوماً مشمساً على غير العادة، ولا بد من أن أستمتع بالمشي تحت أشعة الشمس.

وصلت إلى الجامعة قبل الامتحان بنحو 3 ساعات، فقررنا أنا وأصدقائي أن نذهب ونجلس في ساحة "كلية الفنون" القريبة من كليتنا (5 دقائق مشياً)، كما اعتدنا أن نفعل كل يوم، فهناك أصدقاء لنا كُثر، فضلاً عن أن غالبية الطلاب يتجمعون هناك.

أكثر ما لفت انتباهنا في ذلك اليوم هو أنّ الحرس الجامعي قاموا بإغلاق جميع الأبواب التي يمكن الدخول والخروج منها، لم نكن نشك في شيء، وإنما ظننا أنه مجرد أجراء عادي، كون هذا اليوم هو يوم امتحانات.

كنّا نجلس أنا وأصدقائي على أحد الكراسي القريبة من باب كلية الفنون عندما بدأ طيران النظام السوري الحربي يحلق في السماء، وكان هذا المشهد اعتيادياً لنا؛ إذ كنا نراه أثناء قصف حي بني زيد؛ كون الجامعة تقع في منطقة مرتفعة، وذلك الحي في منطقة منخفضة، فكانت رؤية القصف واضحة لنا بشكل كبير، ولكن هذه المرة لم يكن الطيران يحلّق في تلك المنطقة، بل كان فوقنا تماماً.

في البداية ظننا أنه يقوم بجولات استطلاعيّة، أو أنه طيران أجنبي جديد آتٍ من إيران أو كوريا الشماليّة، ويقوم بجولة ليتعرّف على أحياء المدينة، وليعرف ما يجب قصفه منها، فكما تعرفون كانت حلب مقسمة لجزئين، جزء محرر يسيطر عليه الجيش الحر، وجزء محتل يسيطر عليه النظام السوري، وهو الجزء الذي يقع فيه بيتي والجامعة.

لم تكن سوى مجرد دقائق قليلة حتى رأينا الطائرة الحربية تنقضّ مسرعةً من مسافة شاسعة في السماء نحو الأسفل، ولكن هذه المرة كانت فوق منطقتنا.

عندها أصبحت ساحة كلية الفنون مجرد ساحة "غبار"، لا أرى فيها أي شيء، وأذناي لا تسمعان سوى صفير عالٍ، وذهني توقف عن التفكير.

ومن دون أن أستوعب ما الذي يحصل أخذتني قدماي للركض إلى داخل كلية الفنون التي كنت بجوار بابها، لأرى عشرات الطلاب يصرخون في الداخل، والنار مشتعلة في إحدى القاعات.. هل هو يوم القيامة؟

الطائرة لم تكتفِ بالقصف مرة.. فكرَّرته!

دقائق قليلة، استجمعتُ فيها قواي للخروج إلى الساحة لرؤية ما الذي حصل، ولرؤية أصدقائي الذين اختفوا، خرجت إلى الباب، لم أصدّق ما رأيت، عشرات الجثث في كل مكان، وأشلاء من الصعب تحديد لمَن تعود.

هل هو امتحان إلهي لأرى أشلاءً ولا أعرف لمن هي؟ هل هي لأصدقائي؟ أم لزملاء آخرين لا أعرفهم؟

لم نكد نستطيع أن نساعد شخصاً أو اثنين حتى عاد صوت الطائرة من جديد.

لم أكد أسمع صوت الطائرة حتى سمعت صوت صاروخ آخر فوقنا، ولكنه أصاب الأبنية المقابلة للكليّة، وهي أبنية سكن الطلاب الجامعيين، ولكن مَن يعيش فيها هم نازحون خرجوا من المناطق المحرّرة بعد قصف منازلهم.

أصوات الانفجارات استمرّت، ولكن هذه المرة من السيارات التي كانت تمر من الشارع الذي يفصل السكن الجامعي عن كلية العمارة والفنون، عشرات السيارات اشتعلت ومات مَن بداخلها.

بعد أنّ استقرت الأمور قليلاً ذهبنا إلى الخارج لمساعدة من استطعنا مساعدته، كانت معظم الأبواب مقفلة بالأقفال، فضلاً عن سور واحد تهدّم بسبب القصف، استطعنا أن نخرج منه.

مشهد مهول، أشلاء في كل مكان، برك من الدماء، بعض الأبنية من السكن الجامعي أصبحت من دون حوائط، عشرات السيارات مشتعلة، تنفجر واحدة تلو الأخرى، إنها فعلاً يوم القيامة.

مضى من الوقت أكثر من ربع ساعة حتى وصلت سيارات الإسعاف والدفاع المدني والإطفاء، وبدأت بإطفاء الحرائق ومساعدة الناس، توفي في هذا اليوم أكثر من 100 شخص، معظمهم من الطلاب الجامعيين، وأصيب مئات آخرون بجروح.

رغم أنّ كل الفيديوهات التي صُوّرت والشهادات التي وُثقت رأيناها بأعيننا، فإنّ النظام السوري اتهم المعارضة بتفجير سيارات مفخخة في تلك المنطقة.

عندما خرجت من المنطقة واتجهت إلى المنزل لم أصدق أنني ما زلت على قيد الحياة، فثيابي مليئة بالدماء وبعضٍ من قطع اللحم من أجساد أصدقائي الذين ماتوا، وقميصي البني كان قد تمزّق بالكامل.

بقينا أياماً بعد المجزرة نطمئن على بعضنا، فشبكات الهواتف الخلوية كانت مقطوعة، وليس من السهل أن تتصل أو أن تصل لأحد أصدقائك، حتى أنا لم أتمكن من معرفة أنّ أصدقائي الذين كانوا معي في الجامعة لا يزالون على قيد الحياة، كان خبراً سعيداً رغم التعاسة الكبيرة التي كنا نعيشها في تلك الفترة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نوار كتاو
صحفي سوري من أصول شركسية
صحفي سوري من أصول شركسية