غطت في بعض الأحيان على الحدث نفسه، وخصوصا في الفضاء الأزرق ومواقع التواصل الاجتماعي. ومع أن "استدارة" حماس نحو إعادة العلاقات مع إيران تجري منذ سنوات، إلا أن الاغتيال وتعزية حماس ومشاركة وفد قيادي من الحركة في جنازة سليماني، أعطت للموضوع بعدا جديدا.
استدارة حماس نحو إيران
غادرت حماس سوريا بعد أشهر من انطلاق الثورة السورية، لأنها كانت بين خيارين أحلاهما مر، إما البقاء في سوريا وما قد سيعرضها هذا البقاء من انجرار إلى مواقف مؤيدة لنظام يقتل شعبه لأنه يطالب بحريته، وإما خسارة حليفها الأهم في المنطقة وهو النظام السوري وخسارة كل ما كان يقدمه من دعم عسكري ولوجستي وسياسي للحركة. أجرت حماس حساباتها السياسية و"الأخلاقية" واتخذت قرار الخروج، ما جعلها تتموضع عمليا في محور غير محورها التقليدي الذي كانت ضمنه لسنوات طويلة.
كان الخروج من ذلك المحور في تلك اللحظة التاريخية، من الناحية السياسية وبعيدا عن التقييمات الأخلاقية ممكنا، فقد كانت المنطقة تشهد ظهور تحالفات جديدة نتجت عن التغييرات التي أحدثتها الموجة الأولى من الثورات الشعبية العربية، وخصوصا في مصر وتونس، ومن ضمنها بدء شكل من التحولات الديمقراطية في المنطقة، وتقدم تيار الإسلام السياسي الذي تنتمي له حماس في بعض الدول العربية، وعلى رأسها مصر.
ومع انتهاء الموجة الثورية الشعبية، وتحقيق الثورات المضادة انتصارات مهمة في ساحات عربية عدة وخصوصا مصر، ومع تراجع تيار الإسلام السياسي، وتقدم الأنظمة المعادية لحركة حماس وللمقاومة الفلسطينية بشكل عام، أصبحت الحركة عمليا تعمل في محيط معاد على الصعيد الرسمي، وإن ظلت تحظى بتأييد شعبي لم يعد قادرا على مساعدتها في ظل الأزمات التي يعيشها كل شعب عربي في بلده.
هذه الأجواء غير المواتية، واستمرار الحصار الصهيوني لقطاع غزة، والحصار والعداء العربي لحركة حماس، دفعت الحركة للبحث عن استعادة تحالفاتها القديمة، وخصوصا عبر البوابة الإيرانية، التي كانت هي الأخرى مفتوحة، ولو بشكل موارب، لاستعادة العلاقات مع الحركة.
وكما أن المنطقة كلها تغيرت خلال هذه الأعوام التسعة، فإن من المتوقع والمفروض على حماس أن تتغير، حفاظا على البقاء، وحفاظا على سكان قطاع غزة الذين تقع مسؤولية إدارة حياتهم اليومية على حماس.
ثمة عامل داخلي أيضا يؤثر في استدارة حماس نحو إيران، وهو دخول الحركة في دوامة "السلطة" في قطاع غزة، تحت شعار الجمع بين "الحكم والمقاومة"، وهو شعار ثبت أنه مجرد وهم، وشرك وقعت فيه حماس، فلا مقاومة في ظل سلطة تحكمها إكراهات اتفاقية أوسلو، وتقع تحت رحمة الاحتلال من جهة، وتحت حصار الشقيق العربي من جهة أخرى.
نستطيع بالتأكيد لوم حماس على هذا الخيار السياسي الذي اتخذته عام 2006 و2007، ولكن اللوم والانتقاد المحق والمشروع لا يغير من الواقع شيئا، والواقع هو أن حماس باتت مسؤولة عن حكم قطاع غزة تحت الاحتلال والحصار والانقسام، وفي ظل رفض السلطة الفلسطينية لاستلام مسؤولية الحكم فيه، بحجة عدم السيطرة على السلاح والموظفين.
وبالرجوع للوضع العربي، فإن دول المنطقة كلها، عربية وغير عربية، دخلت الآن في علاقات وتحالفات بائسة وسيئة، واستدارة حماس نحو إيران هي جزء من هذه التحالفات البائسة، كالعلاقة بين تركيا وروسيا مثلا، وبين تركيا وإيران، وبين دول الخليج والولايات المتحدة، وبين المعارضة السورية والدول الغربية وعلى رأسها أمريكا.
علاقات سياسية أم تبعية؟
على الرغم من أن حماس مضطرة لإعادة علاقاتها مع إيران، في ظل الواقع العربي والإقليمي والدولي المشار إليه في القسم السابق من المقال، إلا أنها غير مضطرة للتبعية لإيران أو لأي دولة أو محور آخر في المنطقة. وتبرز هنا معضلة تعيشها حماس منذ عام 2011، وهي أنها لا تفرق بين العلاقات السياسية والانضواء الكامل في هذا المحور أو ذاك.
وهي وإن كانت ضمن محور ما كان يعرف بالممانعة في المنطقة، إلا أنها أبقت على علاقات متوسطة مع دول المحور الآخر في ذلك الوقت، أو ما كان يعرف بمحور الاعتدال.
صحيح أن الظرف السياسي تغير، وأن الاستقطاب أصبح أشد حدة وأكثر انقساما، ولكن الهوامش السياسية ما تزال موجودة، وإن كانت محدودة أكثر من السابق.
أخطأت حماس في عام 2012 بتحولها الكامل عن علاقاتها السابقة، فقد كان بإمكانها نظريا على الأقل، وفق التحليل السياسي والعلاقات الدولية، أن تخرج من سوريا حفاظا على موقف أخلاقي ومنعا من التورط بتأييد نظام مجرم. ولكن مع عدم إعلان موقف واضح منحاز للثورة، بل الاكتفاء بتأكيد حق الشعب السوري بتحقيق مطالبه، بما يسمح لها بالمناورة وإبقاء علاقات محسوبة مع إيران.
سيقول البعض إن عدم إعلان تأييد الثورة كان سيمثل خطيئة بالتقييم الأخلاقي، وسيقول آخرون إن إيران لم تكن لترضى بموقف غير واضح، ولكن العلاقات الدولية تقول إنه بإمكان اللاعبين السياسيين سواء كانوا دولا أو منظمات، أن يتخذوا موقفا أخلاقيا برفض الوقوف مع نظام مجرم بحق شعبه، وأن يحافظوا على علاقات مع حلفائه بالحد الأدنى الذي تسمح به معادلات السياسة.
بدلا من علاقات التحالف الممكنة والأكثر جدوى، فالعلاقة مع إيران لا تعني موافقتها على كل سياساتها، ولا تعني تقديم حماس قرابين للعلاقة، تُخسِرها ظهيرها الشعبي وتحالفاتها مع الأطراف الأخرى.
بإمكان حماس أن تعيد علاقاتها مع إيران، ولكنها ليست مضطرة للظهور كذراع لطهران في ظل العداء الشعبي الكبير لها، وفي ظل انغماس إيران بسياسات تخريبية وطائفية في دول عربية مثل سوريا والعراق واليمن، فالتحالفات لا تعني التوافق التام، والعلاقات لا تعني الاتفاق في كل الملفات، وكما أن لإيران مصالحها التي تملي عليها قراراتها وتصرفاتها، فإن لحماس مصالحها ومصالح شعبها وظهيرها العربي، الذي يجب أن يملي عليها قراراتها وتصرفاتها.
سيقول البعض إن إيران هي الطرف القوي، ومن ثمّ فإن حماس ستكون بالضرورة تابعة لها، وهذا منطق له مشروعيته، ولكنه يسقط أيضا في امتحان التحليل السياسي، لأن الطرف الضعيف له أوراقه التي يحتاج الطرف القوي أن يكسب منها، ولذلك؛ فإن العلاقة بين الأطراف مهما اختلت موازين قوتها، هي عبارة عن طريق باتجاهين يحتاج كل طرف فيها للآخر، وهي كأي فعل سياسي عبارة عن صراع، وإذا أرادت حماس أن تنجح في بناء علاقات متوازنة دون تبعية، فعليها أن تدرك أدوات هذا الصراع وأن تلعب بهوامش السياسة المتاحة
ولا تحتاج الاستدارة السياسية "المفهومة" من حماس تجاه إيران في ظل الواقع الحالي، أن تضع الحركة كل بيضها في سلة إيران، لأن التوازن هو الموقف الأكثر أخلاقية في ظل سياسات إيران التخريبية في دول عربية كثيرة، وهو كذلك الموقف الأفضل استراتيجيا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن إيران نفسها تعيش في أزمة، وأنها في تراجع، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، أو على صعيد الصراع مع القوى الكبرى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.