كثر الحديث عن التطورات المتلاحقة في الشرق الأوسط، وفي شرق المتوسط تحديداً وربطها بصفقة الغاز بين مصر وإسرائيل والاتفاق على إنشاء خط East Med بين إسرائيل واليونان وقبرص. وبسبب بعد كثير من تلك الأحاديث والتكهنات عن الدقة والموضوعية في أمور تمسّ الأمن القومي المصري أحاول هنا استعراض كل ما يخص صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل وتطورات شرق المتوسط مرتكزاً بالأساس على فهم وتحقيق المصلحة المصرية.
تقييم صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل
هناك سؤال محوري يجب أن نقف عنده ونصل إلى إجابته حتى نستطيع تقييم أمور كثيرة تتعلق بصفقة الغاز بين مصر وإسرائيل.
والسؤال هو: كم من الوقت ستستمر حالة الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي التي حققتها مصر، أي متى تعود مصر لاستيراد الغاز من الخارج؟
اكتشاف حقل "ظهر" حقق طفرة كبيرة جداً لمصر في إنتاج الغاز الطبيعي وأمّن لمصر الاكتفاء الذاتي، إذ وصل إنتاجها في سبتمبر/أيلول الماضي إلى 7.2 مليار قدم مكعبة يومياً والمفترض أن يصل في العام المالي الحالي إلى 7.5 مليار قدم مكعبة يومياً. ورغم ضخامة الإنتاج تبقى مشكلة تزايد حجم استهلاك مصر للغاز يتزايد بشكل مطرد. وهذا يعني أننا خلال سنوات قليلة لن نستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي وسنتجه حتماً إلى استيراد الغاز لسد حاجة السوق المصري.
هناك العديد من الدراسات والتقديرات التي طرحت هذه الرؤية وأغلبها يؤكد انتهاء فترة الاكتفاء الذاتي في مدة تتراوح من 3 الى 5 سنوات. وبالتالي ووفق المعطيات الحالية ستعود مصر خلال سنوات قليلة إلى استيراد الغاز لاستخدامه في السوق المحلي. ويمكن مراجعة تقارير دولية متعددة في هذا الصدد وأذكر هنا على سبيل المثال تقرير لبنك بي إن بي باريبا (Bank BNP Paribas) الذي نشر في منتصف عام 2019.
أيام قليلة إذن وتصل أول شحنة غاز طبيعي قادمة من إسرائيل، تصل في منتصف يناير/كانون الثاني 2020. وحتى نحاول فهم أبعاد الصفقة يتوجب تقييمها من الناحية الاستراتيجية والسياسية ومن الناحية الاقتصادية.
الجدوى الاقتصادية
من المفترض أن يصدر الغاز القادم من إسرائيل إلى الأسواق العالمية، فكما وضحت في البداية تتمتع مصر حالياً بحالة اكتفاء ذاتي ستستمر لسنوات قليلة قادمة. وسيتم تصدير الغاز بعد تسييله في محطات الإسالة المصرية (تحديداً محطتي إدكو ودمياط) ثم شحنه بناقلات الغاز المسال إلى الأسواق العالمية. وبالتالي تحقيق مكاسب اقتصادية يمكن تلخيصها في عائدين واضحين الأول هو عائدات تصدير الغاز، والثاني هو رسوم تشغيل محطات الإسالة المصرية.
وهنا يجب طرح عدة أسئلة رئيسية والإجابة عليها حتى نمتلك صورة كاملة للمكاسب الاقتصادية المحتملة من الغاز القادم من إسرائيل.
هل تستطيع مصر من خلال الغاز المسال المنافسة في السوق الأوروبي وجني أرباح كبيرة؟
للإجابة عن هذا السؤال نذكر مجموعة من الحقائق. أحد المشاكل الرئيسية التي تواجه الغاز المسال هو تكلفته العالية مقارنة بالغاز العادي، ولنا أن نتخيل الفارق بين نقل الغاز إلى محطات التسييل ثم تسييله ثم شحنه في ناقلات إلى الخارج ثم فك التسييل في البلد المستورد وبين نقل الغاز مباشرة عبر خط أنابيب إلى البلد المستورد مباشرة يعني باختصار أن الغاز المسال تكلفته أعلى من تكلفة الغاز العادي وأن الأفضلية دائماً في السوق العالمي للغاز الطبيعي هي لنقل الغاز مباشرة عبر خطوط نقل وإذا تعذر وجود خطوط نقل يكون الاختيار الثاني هو الاتجاه إلى الغاز المسال، وبالتالي أي خطوط تنقل الغاز مباشرة إلى السوق الأوروبي ستكون دائماً الاختيار الأول للسوق الأوروبي ومقدمة على استيراد الغاز المسال.
في هذا المجال تسيطر روسيا على ثلث واردات الغاز المتدفقة إلى السوق الأوروبي، والمشكلة في الغاز الروسي ليس فقط أنه يذهب مباشرة عبر خطوط نقل إلى أوروبا ولكن تحديداً في أن الغاز الروسي رخيص مقارنة بأسعار الغاز العالمية مقارنة بمنافسيه الرئيسيين في السوق الأوروبي (النرويج والجزائر)، وبالتالي منافسة الغاز الروسي في السوق الأوروبي صعبة جداً وتكاد تكون مستحيلة.
النقطة الثانية هي انخفاض أسعار الغاز المسال بشكل حاد في 2019 وهناك توقعات باستمرار انخفاض الأسعار، ويكفي أن نشير إلى أن القابضة المصرية للغازات الطبيعية ألغت خلال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول في العام الماضي أكثر من مزاد لشحنات غاز مسال بسبب تدني العروض المقدمة. وبالتالي فإن انخفاض أسعار الغاز المسال في الأسواق العالمية أو اهتزاز الأسعار على الأقل سيكون له تأثير سلبي كبير على فرص تصدير الغاز القادم من إسرائيل.
ما قد يعني أنه بعد سنوات قليلة 3 إلى 5 سنوات سيتجه أغلب الغاز القادم من إسرائيل إلى السوق المصري للاستهلاك المحلي، وهذا يعني أن الفترة الزمنية التي يمكن استغلال الغاز فيها وتصديره للخارج هي فترة محدودة.
وبالتالي إذا كنا نتحدث عن أن أحد مكاسب استيراد الغاز من إسرائيل هو تصدير الغاز إلى الخارج والمنافسة في الأسواق العالمية فيبدو أن فرص تصدير الغاز تواجه صعوبات كبيرة في ضوء ما ذكرنا.
ما حجم المكاسب الاقتصادية من تسييل الغاز في محطات التسييل المصرية؟
نسبة الشريك الأجنبي في محطات تسييل الغاز المصرية تصل لـ 80% في محطة دمياط (80% ليونيون فينوسا و20% لمصر)، وفي محطة إدكو تصل نسبة الشريك الأجنبي إلى 76% لشركة شِل وآخرين مقابل 24% لمصر. وهذا يعنى أن نصيب مصر من تشغيل محطات التسييل حجمه ضئيل لا يتخطى 25% من إجمالي العائدات المتحصلة من رسوم التسييل.
كما أن محطة دمياط لا تعمل بسبب مشاكل قانونية وغرامة بقيمة ملياري دولار لصالح الشريك الأجنبي. وهذا يعني أن نصف الطاقة الاستيعابية تقريباً لمحطات التسييل لدينا متوقفة.
وبالتالي إذا كان الحديث أن أحد مكاسب استيراد الغاز من إسرائيل هو تشغيل محطات الإسالة فيبدو أن هذه النظرة قاصرة جداً وأن حجم المكاسب وفقاً للحقائق التي ذكرناها محدود للغاية.
وبطبيعة الحال ليس معنى أن مصر لا تجني أرباحاً كبيرة من تشغيل محطات الإسالة ألا تكون حريصة على تشغيل المحطات، فهناك التزامات قانونية مع الشركات الأجنبية المشاركة في محطات التسييل بالإضافة إلى البعد الاستراتيجي في امتلاك مصر محطات تسييل لا توجد لدى أي دولة في شرق المتوسط. وبالتالي فإن تشغيل محطات الإسالة في حد ذاته يحقق مصلحة لمصر لا يمكن التغافل عنها ولكن تأخذ حجمها في سياق التقييم الكلي للصفقة.
الأبعاد الاستراتيجية والسياسية
انتهاء الاكتفاء الذاتي لمصر من الغاز يبدأ خلال السنوات القليلة القادمة وسيكون أحد أهم مصادر الغاز الرئيسية التي تعتمد عليها مصر هي الغاز القادم من إسرائيل بناءً على الصفقة التي تمتد لـ 15 سنة، أي أنها مستمرة حتى عام 2035. وتعني هذه المعادلة ببساطة أن الغاز المستورد من إسرائيل سيمثل شريان حياة لمصر، حيث سيذهب الغاز القادم من إسرائيل إلى تلبية احتياجات السوق المحلي المصرية، بالإضافة إلى اعتماد مصر على الغاز الطبيعي بشكل كبير في توليد وإنتاج الطاقة الكهربائية.
ما يشكل عدة مخاطر رئيسية على الأمن القومي المصري كما أراه لا كما يراه النظام المصري.
أولاً: تعني هذه الصفقة ارتباط الأمن المصري بأمن إسرائيل ارتباطاً مباشراً، حيث إن أي تهديدات أمنية يمكن أن تشكل إضراراً بقدرة إسرائيل على إنتاج الغاز ستمثل تهديداً مباشراً أيضاً على إمدادات الغاز القادمة من إسرائيل إلى مصر، وبالتالي يصبح الأمن الإسرائيلي غير مرتبط فقط بمصلحة إسرائيل ولكن بالتبعية أصبح مرتبطاً بمصلحة مصر وأمنها. وهو ما سيحفز مصر في سياستها الخارجية تجاه أزمات إسرائيل سواء مع غزة أو مع جنوب لبنان أو مع أطراف إقليمية أخرى، وهي أزمات مستمرة ولا تنقطع، سيحفز على تبني مواقف تميل أو بالأحرى تتطابق مع السياسة الإسرائيلية في سبيل الحفاظ على تدفق الغاز القادم من إسرائيل.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد ولكن يمكن استغلال الاعتماد المصري على الغاز القادم من إسرائيل لابتزازها والتأثير على قرارها السياسي من خلال التهديد بتأخير أو قطع إمدادات الغاز الطبيعي بسبب أي أزمات أو عمليات عسكرية تقوم بها إسرائيل ما يمنح إسرائيل نفوذاً حاسماً في علاقتها مع مصر.
يكفينا هنا الإشارة إلى السياسة الإسرائيلية في تصدير الغاز وكيف تضع في مقدمتها أمنها القومي لنرى الفارق بوضوح مع الجانب المصري. تلتزم إسرائيل باستخدام 60% من احتياطات الغاز لديها في الاستهلاك المحلي بما يضمن لها الاكتفاء الذاتي من الغاز حتى عام 2040. وتسعى إسرائيل من خلال هذه السياسة إلى تحقيق التوازن بين تصدير الغاز والاكتفاء الذاتي على المدى البعيد، فمهما كانت المكاسب الاقتصادية المتحققة من تصدير الغاز فهي لا تساوي بأي حال تهديد الاكتفاء الذاتي والذي يمكن أن يتسبب في وضع إسرائيل كتابعة ومعتمدة على الغاز المتدفق من دول الجوار. الأولوية الإسرائيلية هي ألا تعطي فرصة لدول الجوار لامتلاك أوراق ضغط يمكن أن تمثل لها تهديداً على المدى البعيد.
إجمالاً يمكننا هنا ببساطة تخيل حجم التهديدات المحتملة على الأمن القومي المصري في المستقبل والتي تتعلق بسيطرة وتحكم إسرائيل على جزء ليس بالقليل من إمدادات الغاز الطبيعي للسوق المصري، وهي أمور لا أعتقد أنها يمكن أن تغيب عن أي صانع للقرار السياسي يدرك طبيعة وأبعاد التعامل مع إسرائيل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.