رسالة إلى «جيش المغفلين»: «عبوديتنا طريقنا إلى الجنة»

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/09 الساعة 14:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/09 الساعة 14:09 بتوقيت غرينتش
رسالة إلى "جيش المغفلين": عبوديتنا طريقنا إلى الجنة

لديَّ قناعة تتزايد يوماً بعد يوم أن البشر يواجهون صعوبة بالغة في فهم واستيعاب اللحظة الآنية التي يحيونها، ورغم ذلك يتبارون للتنبؤ بالمستقبل وشرح الماضي وتفكيكه وإعادة ترتيبه بكل ثقة.

يعتقد أغلب البشر أن أفكارهم وتصوراتهم و(أيديولوجياتهم) تعطيهم فكرة حقيقية عما يجري على الأرض، وأن أياً كان ما يؤمنون به فهو قادر على تقديم تفسير مقنع لكافة الظواهر والأحداث. لكن اليقين المطلق والثقة العمياء فيما يعتنق المرء يجعلانه عرضة للخداع ويحجبان عنه أجزاء كبيرة من الصورة.     

رغم ذلك، يدرك الناس أن ثمة عطب أو أعطاب ما في الحياة التي يعيشونها، إذ يختبرونها كل صباح ويتذوقون مرارتها في تفاصيل حياتهم اليومية. ورغم أن يلمسون تلك الأعطاب بشكل يومي في شكل المشاكل اليومية التي يعيشونها بتفاصيلها إلّا أنهم عادة لا يدركون مصدر هذه الأعطاب أو مصدر هذه الشرور كلها التي لا ينفكون أن يخرجوا من إحداها حتى يقعوا فريسة لأخرى.

نفشل يومياً في إدراك مكمن الخلل وأصل المشكلة، ولا نكاد نعالج عَرَضاً من أعراض الخلل حتى يظهر عرض آخر. ومع الوقت وتوالي المشاكل في زخم الحياة اليومية والركض وراء البقاء على قيد الحياة ننخرط أكثر وأكثر في قلب العطب ذاته، ونصبح تروساً في نمط الحياة التي تنتج كل تلك المشكلات. يوماً بعد يوم، يتسرب إلينا إيمان عميق بأنه لا توجد حياة أخرى يمكن أن نعيشها، وأن نمط الحياة هذا هو النمط الوحيد الممكن. نتحول إلى عميان غير قادرين على رؤية أي شيء خارج هذا النمط من الحياة. وتتحول أفكارنا ومعتقداتنا من أفكار نبيلة تهدف إلى جعل هذا العالم مكاناً أفضل إلى رؤى وأدوات نبرر بها قبح العالم.
أتذكر أنني سمعت كثيراً ومراراً وتكراراً ومن أطياف الإسلاميين المختلفة أن النظام الاقتصادي في الإسلام رأسمالي؛ بل وذهب البعض ليقول إن سيدنا عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- كان مثالاً للرأسمالي الفذ عندما رفض أخذ شطر مال أخيه في الإسلام سعد بن الربيع ثم قال كلمته الشهيرة: دلوني على السوق.

والحقيقة أن الإسلام أرحم من أن يتبنى مثل هذا النظام الذي يطحن البشر في ماكينته كل صباح ومن ثم يشكلهم على هواه.

يبدو من الرومانسية أن أجعجع قائلاً إن ما تقوم به الرأسمالية أمر مرعب وغير إنساني، ينبغي التصدي له وإيقافه بأي ثمن.
لكن كيف يقوم النساك بهدم معبدهم، كيف يقوم العمال بهدم مصنعهم، كيف يهدم الناس الرأسمالية وهي من تطعمهم وتطعم لذاتهم وشهواتهم؟
وما السبيل إلى ذلك، ونحن مستأنسون تماماً لا يخشى منا ولا يرجى.
يقول الكاتب طارق العلي إننا "لسنا عدميين كفاية لمواجهة الرأسمالية. ويمكن القول لسنا زاهدين بالحياة الدنيا كفاية لنفعل ذلك".

جيش المغفلين 

في البداية يسوقون لك -أو ربما هي الحقيقة لست متأكداً تماماً- أنك في صراع دائم مع الطبيعة وباقي البشر من أجل البقاء، وبالطبع أنت لا تريد الموت، إذن عليك أن تفعل أي شيء وكل شيء من أجل أن تبقى. في المدرسة عليك أن تكون الأول بين زملائك، في العمل يجب أن تكون الأفضل دون منازع، يجب أن يكون حسابك البنكي مكتنزاً بالأموال، وهكذا يجب أن تكون مميزاً عن باقي أقرانك. وبعد أن تقتنع بذلك أو يفرض عليك كأمر واقع. بعدها تتساءل ماذا أحتاج من أجل البقاء على القمة أو بين المميزين؟ حينها يبتسم كهنة المعبد ابتسامة نصر خفيفة ويفتحون لك أحضانهم: مرحباً بك في جنتنا، رأسماليتنا هي طريقك إلى الجنة، عبوديتنا تخلق جنة الأرض.

حسناً، الأمر بسيط، كل ما تحتاجه هو المال، وبالطبع لن يقول لك أحدهم صراحة إن كل شيء متاح من أجل الحصول على المال، أو إنه يجب عليك أن تكون مخادعاً غشاشاً لكي تحصل على المال، لكنهم سيقولون لك إن الصدق والأمانة ومراعاة الآخرين إلى آخر قائمة الصفات الكريمة موجودة في الجنة بينما نحن على الأرض والله غفور رحيم، أو أن هذه الصفات هي صفات الضعفاء وأنت بالتأكيد لا تريد أن تكون ضعيفاً، أليس كذلك؟

تقوم أنت -لا إرادياً- بأخذ الجانب الآخر من المعادلة؛ الجانب القوي لأجل البقاء وحلم الازدهار. 

في الرحلة التي ستنتهي بإنسان آخر غير الذي بدأها وبعد أن تأخذ حد الأدنى الذي يبقيك حياً، تقوم المنظومة بعدة عمليات وحيّل تجعلك فريسة سهلة لها لتضمن إضافة "مغفل" جديد لجيش.

أولى هذه العمليات هي "أنت دائماً ناقص" هنا تقوم المنظومة من خلال الإعلانات التجارية الموجودة حولك في كل مكان بإخبارك أنك لست مكتملاً وتحتاج إلى المزيد، تحتاج لأن تشتري هذا المنتج لتزداد قيمتك الاجتماعية أو لتزداد ثقتك بنفسك.لا تقلق لن يقولوا لك إنك غبي أو خجول، لكنهم سيخبرونك أن هذا المنتج هو الذي سيجعلك ضمن المتميزين الذين يعانون من الكمال.

بعد ذلك سيقولون لك إن كان المال قد أمن لك البقاء كله فهو بالتأكيد يشتري السعادة. إن كنتِ قبيحة -وفقاً لمقاييس الرأسمالية- فهذه المساحيق ستحولك لملكة جمال، إن كنتَ سميناً فهذه الحبوب ستجعلك لاعب جمباز أسرع مما تتخيل. وإن كنت غامق البشرة مثلي هكذا فهذا المعجون سيجعلك أبيض مثل الثلج في غضون شهور معدودة. لا تهم مشكلتك التي تعاني منها بعد أن قمنا باختلاقها في المرحلة الأولى، المهم هي أننا نمتلك حلها لك، والحل مضمون 100%. وتدخل بعد ذلك في دوامة لعينة من الشراء المستمر بحثاً عن السعادة. وعلى الهامش، تتم جدولة بعض النشاطات المحفزة لعملية الشراء مثل "الجمعة السوداء" وغيرها.  

بعد أن جربتَ بنفسك قدرة المال على تأمين البقاء وشراء السعادة، وإن كانت السعادة تشترى فإن كل شيء في هذه الدنيا يمكن شراؤه، لكن لكي تشتري أكثر -لا يهم ماذا ستشتري أو هل تحتاجه أم لا- المهم هو أن عليك أن تعمل أكثر لتشتري أكثر حتى تصير من المميزين الأقوياء، أم تريد أن تكون من الضعفاء المهّمشين؟

لن يخبروك أنه عندما تعمل أكثر سيزيد ثراؤهم وتبقى أنت تصرف أموالك على منتجاتهم التي لا تعرف متى شعرت بالرغبة في امتلاكها؟

وتبقى أنت وغيرك في الدائرة، تعملون كعبيد عندهم، يتباهى كل منكم بشروط عبوديته، بينما تصرفون أموالكم على منتجات أسيادكم دونما أن تفكروا للحظة واحدة.

في المقابل، يزداد الأثرياء ثراءً ويزداد الفقراء فقراً، وعند الأزمات سيخرج عليكم الأثرياء يطالبونكم بالصبر، وأن الجوع لم يكن عيباً يوماً. وحتى إن رفضتم الصبر وربط الأحزمة فماذا بإمكانكم أن تفعلوا، لقد قمتم أنتم ببناء أسوارهم التي يختبئون خلفها، وقمتم أنتم بتصنيع الأسلحة التي سيقتلونكم بها إن تطلب الأمر.

حتى أطفالكم تبرعتم بهم ليكونوا جنوداً لهم، لكن لا تخافوا، لن يتركوكم تموتون جوعاً، لهذا خلقت القروض التي ستردونها لنا أضعافاً مضاعفة، أو ستقومون بوضع عدة إعلانات طريفة على منازلكم، وسياراتكم وملابسكم لعرض منتجاتهم التي صنعتها وخلقتها أيديكم. 

جميلة هي الرأسمالية، تخلق عالماً مليئاً بالسعادة والحب، والراحة والمتعة لكل من يمتلك المال. صحيح أن الأنانية والفردية، وانعدام الإيثار صفات ملازمة لهذا العالم، لكن هذه تبعات غير مقصودة على الإطلاق. 

وقد تحدُث بعض المآسي والمصائب مثل المجاعات أو تطبيق سياسات التقشف، بسبب عدم قدرة النظام على التوزيع العادل للثروات والحقوق بين الناس. وقد تنشب بعض الحروب، لأن تجار السلاح من حقهم أيضاً أن يحصدوا بعض 

المال، فلقد عملوا لأوقات طويلة هذا العام.

أرجوك لا تكن من المغفلين وتقول: "لم يقل لي أحدهم هذا الكلام من قبل"، فهذه أشياء تُحس ولا تقال.

يقول الشاعر مصطفى إبراهيم قصيدته "بنكنوت":

الهوا ..

هيحَصّل المَيّة اللي بقت ماركات

تعددية تعني تعدد الشركات

حرية تعني حق فتح القفص..

على الناس اللي ملهاش باب

الأخطبوط الرأسمالي اتساب

على الناس اللي ملهاش حظ

على الناس اللي ملهاش فرص

حياتك.. مهمة لبياعين الحلم

وفاتك.. مهمة لبياعين القُرَص

حسابك حتى في قبرك.. مهم

رخصة الجنة مهمة لبياعين الرُّخَص

ولبياعين الدين

ولبياعين الآخرة اللي هتنصف المساكين

"العالم بيتطوّر"..

يمشي اسم مسرحية..

أما الحقيقة المضحكة المُبكيّة..

العصاية اللي بتوقّف وبتدوّر.. بتمشي..

من إيد صحاب الجنة..

لصباع صحاب البندقية..

لجيوب صحاب البنك…

دم الغلابة بيتحرق ف التانك…

شامم ريحتهم وانت بتفوّل؟…

الغرب هيموّل..

إعمار بِيار النفط..

لضمان زيادة منسوبات الشفط…

وضمان بقائك عبد متسوّل…

يا زميل الكوكب المنكوب..

رَكب الحضارة ماشي بالمقلوب…

يا زميل المنطقة المنكوبة…

رَكب الحضارة كان لازم له ركوبة…

العالم.. بيتطوّر…

وانت شمعة بتتحرق علشان.. برج التجارة ينوّر

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حذيفة حمزة
كاتب ومحرر
محرر، وباحث في علم الاجتماع الرياضي