«الفاعلية أهم من السيطرة».. كيف تعلمت فن السياسة من مشاهدة الدوري الإنجليزي؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/07 الساعة 11:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/07 الساعة 14:23 بتوقيت غرينتش
جوارديولا وكلوب

قد يظن البعض أن مشاهدة مباريات كرة القدم هو نشاط ترفيهي بالأساس لا يحتاج إلى تشغيل الفكر أو إعمال العقل. لكن كرة القدم، ورغم أنها أصبحت صناعة تهدف إلى الربح من خلال الترفيه، إلا أنه يمكن من خلالها تعلم الكثير من الأمور عن الحياة.

بالنسبة لي، عندما عدت إلى متابعة مباريات الدوري الإنجليزي تزامناً مع صعود محمد صلاح في ليفربول لم أكن أتصور أن مشاهدة هذه المباريات يمكن أن تؤثر على طريقة دراستي للعلوم السياسية. ومع قراءتي لعدد من المقالات التي تحلل طريقة عمل الفرق الرياضية وطريقة أدائها، وجدت أن طريق الرياضة قد أعادني مرة أخرى إلى السياسية ولكن بشكل مختلف.  

خلق وإدارة المساحات 

الدرس الأول الذي تعلمته من كرة القدم أنها لعبة قائمة بالأساس على كيفية إدارة المساحات الموجودة في الملعب. قد تفضل بعض الفرق اللعب بطريقة تضمن لهم التحكم في أكبر مساحة ممكنة أي عن طريق الاستحواذ على الكرة لأكبر قدر ممكن من الوقت. في حين تفضل فرق أخرى الاستغناء عن ذلك بالتحكم فقط بمساحات مهمة في الملعب بشكل جيد وترك باقي المساحة للفريق المنافس.

مع ذلك، فإنه في كلا الحالتين، فإن خلق مساحات جديدة يمكن استغلالها هو أمر أكثر أهمية من الاستفادة من المساحات الشاغرة إذا كنت تريد الفوز بالمباراة. المساحات الجديدة التي تكتسبها وتخلقها لتستغلها أو التي تتحكم بها عند بناء الهجمة هي التي تضمن لك إحراز الأهداف، وكلما كانت المساحات الجديدة التي تكتسبها في أماكن مميزة من الملعب فإنها تساعدك على إنهاء الهجمة بشكل جيد وإحراز الأهداف.

أما الخسارة الحقيقية في أي مباراة، فهي خسارة مساحاتك لصالح الخصم خاصة لو كانت هذه المساحة في منطقة مهمة في الملعب، هذه الخسارة سوف تعطيه أفضلية أكبر في إحراز الأهداف.

فكر قليلاً ما الذي يحاول أن يقوم به المهاجم أو الظهير أو لاعب الوسط؟

إنه يحاول الاستفادة من المساحة الحالية التي يقف عليها ويتحكم بها من أجل بناء هجمة جديدة تعمل على الاستفادة من مساحات أخرى في الملعب قد تكون فارغة فتعمل على التحكم بها، أو قد تكون تحت سيطرة الفريق المنافس لكن تريد أن تأخذها منه من أجل استكمال بناء الهجمة.

وهل السياسة إلا محاولة الاستفادة من المساحات المتاحة وخلق مساحات أخرى في أماكن جديدة أكثر خطورة كي تضمن إحراز الأهداف/تحقيق النتائج؟

الفاعلية أهم من السيطرة

الدرس الثاني الذي تعلمته هو أن السيطرة الكاملة أثناء المباراة لا تعني ضمان الفوز بالضرورة. فالفاعلية أهم من السيطرة.

قد يظل الفريق محتفظاً بالكرة لفترات طويلة لكنه غير قادر على خلق المساحات واستغلالها لإحراز الأهداف، فما الفائدة!

أيضاً، احذر من الفرق التي تعتمد على الهجمات المرتدة السريعة والخاطفة. فهذه الفرق تعرف المعنى الحقيقي لكلمة الفاعلية. تستطيع من خلال فرصتين أو ثلاثة فقط تحقيق الأهداف رغم أن الفريق المنافس قد يكون هو الأكثر سيطرة واستحواذاً على الكرة. هذه الفرق تقوم على العمل الجماعي المنظم، وعلى اللعب السريع واستغلال الفرص، كما أنه لديها تكتيك واستراتيجيات واضحة ومحددة تمكنها من قراءة المباراة جيداً والاستفادة من الفرص التي تحصل عليها بشكل حاسم.

وما الذي تريده القوى السياسية الجديدة إلا العمل بفاعلية والاستفادة من الهجمات المرتدة في إحراز الأهداف؟

ميسي واحد فقط

الدرس الثالث الذي تعلمته أنه لا يوجد إلا ميسي واحد فقط في العالم، وأنه لا يتكرر إلا على فترات متباعدة. لكن رغم ذلك يمكن أن يظهر محمد صلاح، ماني وفيرمينو وسواريز ونيمار وغيرهم الكثير إذا أتيحت لهم فرصة جيدة وإذا تدربوا بشكل كاف. ميسي موهبة فنية كروية بذاتها لا تحتاج إلا لكرة قدم حتى تظهر كل المهارات والفنيات التي لديها. أما الباقون، فهم في حاجة دائماً إلى التدريب المكثف من أجل اكتساب الفنيات واللياقة، وفي حاجة إلى لاعبين مساعدين جيدين  للعمل كفريق قادر على الفوز، وبحاجة إلى مدرب جيد لإظهار مهاراتهم وتطويرها.  كل من ميسي والآخرين في حاجة إلى هذه الأشياء، لكن هذه الأشياء تجعل من ميسي أسطورة وتجعل من الباقين لاعبين مميزين.

لذلك، فإن الفرصة المناسبة في المؤسسة الصحية التي توفر كل شروط التدريب والتجهيزات اللازمة إذا لم ينتج عنها ميسي فبالتأكيد سوف ينتج عنها "محمد صلاح". لكن بدون الفرص المناسبة أو هذه المؤسسة فلن تجد لا ميسي ولا محمد صلاح.

هل كان يمكن لأبوتريكة أن يصبح أبوتريكة الذي نعرفه إذا ظل يلعب في نادي الترسانة ولم ينتقل إلى النادي الأهلي؟

وهل السياسة إلا مؤسسات لديها آليات ونظم عمل تضمن تخريج سياسيين على مستوى جيد؟ فالقادة السياسيون -كما لاعبي الكرة المميزين- لا يأتون من الفضاء ولكن يتم إنتاجهم.   

التدريب والتخطيط هو الحل 

الدرس الرابع الذي تعلمته من المباريات الفاصلة أو مواجهات الفرق الكبيرة، هو أن الإعداد الجيد قبل المباراة هو أهم خطوة في سبيل الفوز. في مثل هذه المناسبات، فإن قراءة أفكار الخصم جيداً ومعرفة نقاط قوته وضعفه وتوقع سيناريوهات المباراة شروط أساسية للفوز. وعلى المدرب أن يقوم بذلك قبل المباراة وليس خلالها، وعلى الفريق أن يفهم هذا أيضاً بل ويجب عليه أن يتدرب عليه. في هذه الحالة، فإن من يقوم بأداء "الواجب المنزلي" جيداً قبل المباراة هو في الأغلب الذي سيفوز بها. في المباريات الفاصلة، قد لا تتاح لك إلا فرصة واحدة خلال المباراة، إذا لم تغتنمها فقد ضاعت منك المباراة. في هذه المباريات، أي تغيير كبير في طريقة لعب الفريق المنافس يعني أنك غالباً لن تستطيع الفوز بالمباراة، خاصة لو كان الفريق المنافس قد استعد جيداً لهذا التغيير من حيث التفكير والتخطيط أو من حيث التنفيذ. الذي يستطيع أن يقرأ المباراة الفاصلة  جيداً قبل أن تبدأ ويجهز لها هو الذي سيفوز غالباً بهذه المباراة.

وهل المعارك السياسية الكبرى ولحظات التغيير التي لا تتكرر إلا كل عدة سنوات إلا مباراة فاصلة يجب أن يقرأها السياسي جيداً قبل أن تبدأ وإلا خسرها؟

فُز بالمعارك الصغيرة أولاً

الدرس الخامس والأخير لهذه المقالة (وإن كانت الدروس التي تعلمتها كثيرة ولم تنته بعد) إن الفوز بالدوري يأتي أولاً من خلال جمع النقاط عن طريق الفوز على الفرق الصغيرة والمتوسطة. أما مجرد فوزك على فرق كبيرة أمثال مانشستر سيتي وليفربول خلال الدوري لا يضمن لك فرصة كبيرة بالفوز بالدوري. بمعنى آخر، إن الفوز في المباريات السهلة والمتوسطة هو الذي يؤهلك للفوز بالدوري والفوز على الفرق الكبيرة أيضاً. أما إذا حالفك الحظ مرة وأخرى هناك بالفوز على الفرق الكبيرة فإن هذا لا يعني أنك ستحرز الدوري، خاصة إذا كنت قد أضعت نقاط الفوز أثناء مباريات الفرق الصغيرة والمتوسطة.

في السياسية، يصعد السياسيون والأحزاب السياسية إلى السلطة عبر الفوز بالمعارك السهلة أولاً. أما السياسي أو الحزب والحركة الذي يزعم أنه لن يلعب إلا في المباريات الكبرى فقط، في المعارك السياسية الكبيرة فقط فإنه حتى لو فاز بإحداها فإن هذا لا يضمن له أنه سيبقى في السلطة. فالبقاء في السلطة يحتاج إلى الفوز بمعارك أخرى صغيرة تضمن له الاستمرار في صدراة الدوري، أقصد في صدارة الحكم.

الدرس الوحيد الذي لم أتعلمه من مباريات الدوري الإنجليزي هو أن السياسة ليست فقط صراعاً وتنافساً مع الآخرين، لأنها في بعض الأحيان قد تكون أيضاً تعاوناً واتفاقاً معهم. أن نبني كرة القدم على قيم الصراع والتنافس فقط هو تحويلها إلى ساحات للتعصب وبناء الانتماء الأحادي وإعلاء لقيم الفوز والنصر حتى لو كانت على حساب قيم أخرى أهم. وهي نفس المشكلة التى ستحدث إذا بنينا السياسية فقط على هذه القيم. يجب أن يكون جزء من السياسة مبنياً على التواصل والإبلاغ، على بناء القناعات والمواقف المشتركة، على إعلاء قيم التراحم والتواصل وتحقيق العدل. لكني لم أجد هذا في الدوري الإنجليزي.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد محسن
باحث دكتوراه في العلوم السياسية
باحث دكتوراه متخصص في العلوم السياسية والسياسات العامة . حاصل على ماجستير السياسات العامة من معهد الدوحة للدراسات العليا (2017). له عدد من المقالات الأكاديمية المحكمة. ينشر بإنتظام في عدد من الصحف والمواقع الإخبارية. وتتركز إهتماماته في مواضيع تغيير السياسات العامة في الدول غير الغربية، العلاقات المدنية العسكرية، ودراسات الشرق الأوسط.
تحميل المزيد