تاريخ طويل من التفاهم والتعاون .. قاسم سليماني.. لماذا اغتالت أمريكا حليفها السري في العراق؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/05 الساعة 17:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/05 الساعة 17:42 بتوقيت غرينتش
قاسم سليماني

 مقدمة

الجنرال قاسم سليماني، حليف أمريكا السري في مواجهة المثلث السني بالعراق، وبيدقها الخفي في تصفية داعش بالموصل قضى نحبه على يد حلفائه بعد سنوات من التعاون السري المشبع ببعض الصراعات العلنية.

فقد استيقظنا فجر الجمعة على خبر اغتيال قاسم سليماني بقصف صاروخي أمريكي في شوارع بغداد، وكان خبراً لا يمكن تصديقه في البداية رغم منطقية تلك النهاية.

 فهذه النهاية المثيرة تدشن لمرحلة جديدة بين العلاقات الأمريكية الإيرانية، فهذا أرفع قائد إيراني يتعرّض للاغتيال وبشكل مباشر من أمريكا، وأول صدام حقيقي بين الطرفين منذ عقود وبشكل مباشر، ودون أن يستخدم أي طرف أذرعه بالمنطقة.

 الاغتيال هو النهاية التي تليق فعلاً بقائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، وتلخّص 40 عاماً من القتال على ساحات عدة، كان معظمها في الهلال الشيعي الممتد من العراق إلى سوريا ولبنان.

ماذا فعل سليماني وقواته في العراق وسوريا؟

لم يكن حصار السفارة الأمريكية هو السبب الحقيقي لهذا التحرك الأمريكي، فهو مجرد القشة التي قسمت ظهر البعير الإيراني في العراق.

 فقد شعرت الولايات المتحدة لأول مرة أنها محاصرة في أكبر وأحصن سفارة للولايات المتحدة بالعالم، عندها فقط شعرت أمريكا أنه لا بد من موقف حاسم ضد أذرع إيران، التي توغلت في العراق وسوريا ولبنان، والتفّت لتسيطر على أكثر من نصف اليمن.

كانت هناك هدنة، بل وتحالف بين الطرفين في العراق والدول المحيطة بإيران منذ 2001 وحتى اليوم، تخللتها بعضُ المناوشات، إلا أنها حافظت على صلابتها وقوتها ضد الأعداء المشتركين.

وبما أن سليماني كان هو قائد قوات القدس الحرس الثوري وهي المكلفة من مرشد الثورة علي خامنئي بإدارة عمليات الحرس الثوري الخارجية العسكرية، وفي بعض الأحيان يتعدى دورها للعمل السياسي وتغيير أوراق اللعبة.

 فقد كان لها الدور الرئيسي في أي تعاون مع الولايات المتحدة أو أي جهة خارجية في محيط إيران.

فبعد تكليفه رسمياً برئاسة الفيلق عام 1998، وقعت العديد من الحروب في محيط إيران الاستراتيجي "العراق وأفغانستان"، ولم تكن إيران بعيدة عن التعاون مع أمريكا في الاحتلال.

في البدء كانت أفغانستان

رغم الرفض العلني لإيران للاحتلال، إلا أن إيران كانت لها يد طولى في أفغانستان، نظراً لتمويلها المطلق للأحزاب الشيعية المسلحة بتلك الدولة الفقيرة، ومواجهتها مع إيران، فقد ضمّت إيران الأحزاب الشيعية الأفغانية تحت حزب واحد، وسمّته " حزب الوحدات الشيعي " عام 1989.

 هذا الحزب المسلح اشتبك مع طالبان بعد سيطرتها على معظم أفغانستان، بإيعاز من فيلق القدس، إلا أنّ دوره ضعف بعد مقتل رئيسه عبدالعلي مزاري، في مواجهات مع طالبان عام 1995.

لم ينس قاسم سليماني ما فعلته طالبان في أحد أذرع الفيلق، ورغم الهدنة العلنية بين الطرفين فإنه بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2011، قرّرت أمريكا دخول أفغانستان، وكان لا بد أن يكون لإيران موقف واضح من الغزو، إلا أنّ الموقف الرمادي لإيران والتعاون السري ساعد أمريكا في تسهيل إسقاط حكم طالبان.

"محمد علي أبطحي"، نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية في تلك الحقبة، كان له تصريح مثير للجدل أثناء زيارته لأبوظبي، في 15 يناير/كانون الثاني 2004، حيث أعلن خلال مؤتمر صحفي أن بلاده قدّمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد طالبان وصدام.

 قائلاً إنه لولا التعاون الإيراني لَما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة "لكننا بعد أفغانستان حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر، وبعد العراق نتعرض لهجمة إعلامية أمريكية شرسة".

هذا التصريح المرعب يُلخص ما حدث مع أفغانستان، فقد تعاونت إيران سراً وقتَها، لكنها علناً قالت إنها ضد الحرب، وحرّكت رجالها بداخل أفغانستان لمساعدة قوات التحالف بإيعاز من قائد الحرس الثوري قاسم سليماني.

احتلال العراق.. عندما تقاسمت إيران وأمريكا الكعكة

كان تجلّي التعاون بين الحرس الثوري الإيراني بقيادة قاسم سليماني وأمريكا هو في احتلال العراق، وما جرى بعدها من عملية سياسية وعسكرية جعلت أذرعها تسيطر على العراق سيطرة كاملة، مقابل التعاون مع الولايات المتحدة.

فقد طوّر قاسم سليماني أول ميليشيا له في العراق عبر العراقيين الشيعة اللاجئين في إيران، وبالتعاون مع الزعيم الشيعي باقر الحكيم، وهو من أبرز قيادات الشيعة في العراق، وقام بزيادة تسليحهم وبناء المعسكرات لهم على طول الحدود الجنوبية مع العراق، مع ظهور بوادر الغزو الأمريكي.

ورغم قدم ميليشيا فيلق بدر، التي ترجع نشأتها لعام 1981، وتتكون من عدد من العسكريين العراقيين السابقين ومعارضي صدام الشيعة، إلا أنّ دورها بزغ بعد وصول سليماني لسدة السلطة، وتوليه مسؤولية العمليات الخارجية لإيران عام 1998، بالتزامن مع تحضيرات غزو العراق.

وفي عام 2002، ومع ظهور بوادر غزو أمريكا للعراق كانت قوات بدر التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي تنهي تدريباتها في المنطقة الحدودية بين البلدين استعداداً للدخول مع القوات الأمريكية والبريطانية.

وشارك ذراعا الحرس الثوري الإيراني "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالعراق"، وحزب "الدعوة" في مؤتمر المعارضة العراقية الشهير في لندن عام 2002، وهو المؤتمر الذي تشكل منه مجلس الحكم بعد سقوط صدام.

حيث كانوا ضمن 6 من حركات المعارضة المتحالفة مع الولايات المتحدة لإسقاط صدام، وهي: "المؤتمر الوطني العراقي، وحركة الوفاق الوطني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، والحركة الملكية الدستورية، وحزب الدعوة الإسلامي الشيعي".

ونسّقت وموّلت الولايات المتحدة هذا المؤتمر، وأرسل جورج بوش مبعوثه الشخصي زلماي خليل زادة والوفد الموسع المرافق له، الذي يمثل أجهزةً متعددة من الإدارة الأمريكية.

وفي عام 2016 اعترف مستشار الرئيس الأمريكي السابق زلماي خليل زادة، بأن هناك تعاوناً عسكرياً وثيقاً حدث بين إيران وأمريكا لغزو العراق.

وقال  زلماي خليل زاده، في مذكراته التي نشرها  بعنوان "المبعوث"، إن  إيران التزمت بالسماح للطيران الأمريكي بعبور أجوائها بسلام فوق الأراضي الإيرانية.

 مشيراً إلى أن إيران كانت تحثّ الشيعة العراقيين على المشاركة بطريقة بناءة في إقامة حكومة جديدة في العراق، وأن بعض زعماء الشيعة العراقيين البارزين ظلوا يحظون بدعم إيران، التي تُعد القوة الشيعية الكبرى في المنطقة.

دخول أمريكا للعراق وتعاون الحرس الثوري

بالتزامن مع اجتياح أمريكا وبريطانيا للعراق، في مارس/آذار 2003، اجتاحت قوات بدر المدعومة إيرانياً المناطق الحدودية مع العراق، وقامت بمقاتلة الجيش العراقي وتكبيده خسائر واضحة، مدعومةً بالقصف الأمريكي والاجتياح البري.

 وسهّلت العناصر الخاملة لقوات بدر وميليشيات حزب الدعوة في المدن العراقية عملية تفتيت الجبهة الداخلية وهزيمة الجيش العراقي، وفتح بوابات تلك المدن للولايات المتحدة.

محمد باقر الحكيم قائد تلك القوات والمدعوم من فيلق القدس اعترف صراحة بدور قواته "فيلق بدر" في حفظ الأمن بمدن العراق بعد الاحتلال، مؤكداً أنه لن يقاوم الاحتلال إلا سياسياً، بحسب المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد سقوط صدام، في مايو/أيار 2014.

كان للميليشيات العراقية المدعومة من إيران الدور الأكبر في تأسيس الجيش العراقي الجديد والشرطة الاتحادية، واستغلت الولايات المتحدة حالة الكراهية المتصاعدة بين الشيعة والسنة لصالحها، فبينما كانت محافظات الجنوب في أغلبها تنعم بالهدوء، كان المثلث السني وفي قلبه الفلوجة يشتعل بالمقاومة.

وهنا برز دور جديد للميليشيات المدعومة من سليماني في السيطرة على المحافظات السنية بعد 2003، فحسب هذا المقطع المنشور لضابط أمريكي يدرب الجنود العراقيين كانت ألفاظه واضحة في تأجيج الفتنة الطائفية، عندما كان يقول لهم "هل ستنتظرون حتى يذبحكم المتمردون السنة"، للتدليل على أن العدو المشترك بينهم هو المثلث السني.

في تلك اللحظات ظهر زعيم شيعي وحيد هو من تبنّى خيار المقاومة، ووضح من تصريحاته أنه غير خاضع لإيران في تلك الفترة، هو زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي أسهم في مقاومة الاحتلال الأمريكي لفترة وجيزة، مخالفاً قرارات أغلبية مرجعيات الشيعة آنذاك، إلا أن مقاومته لم تكتمل بفضل تدخل سليماني ورجاله المتجذّرين بالعراق.

فبعد تفجير المراقد المقدسة لدى الشيعة، في فبراير/شباط من عام 2006، وهم يرتدون زي الشرطة، ولم يُستدل عليهم حتى اليوم، تحولت دفة جيش المهدي رسمياً من قتال المحتل لقتال شركاء الوطن رسمياً بسبب تصاعُد الخطاب الطائفي المحرّض ضد السنة، وهو الخطاب الذي خدم قاسم سليماني، لدرجة أن البعض أرجع تفجير المرقدين لرجالٍ تابعين له، بهدف توحيد الميليشيات الشيعية تحت راية إيران.

وارتكبت ميليشيات جيش المهدي العديد من الجرائم الطائفية، مثلها مثل باقي الميليشيات، وعلى رأسها فيلق بدر وغيرها، وسط صمت أمريكي على تلك الجرائم المتصاعدة من قبل حلفائها في الميليشيات، حيث ساهمت الحرب الطائفية في تقليل عدد القتلى بين الجنود الأمريكيين منذ 2007، وحتى الانسحاب الأمريكي، وتوقف عمل جيش المهدي ضد القوات الأمريكية لانشغاله بقتال شركاء الوطن مع أبناء طائفته، بدعم ورعاية من فيلق القدس.

كان التعاون بين الطرفين في أوجّه للتصدي للخطر المشترك، متمثلاً في التمرد السني وقوة شوكة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، فقد كانت الميليشيات التي يديرها فيلق القدس هي رأس الرمح الأمريكي في مواجهة المثلث السني، وتقليل عدد القتلى من الجنود الأمريكيين.

بسطت إيران سيطرتها على العراق، وغضّت أمريكا الطرف عن الجرائم الطائفية والشحن الطائفي، التي كانت قادرة على حسمه بسهولة، بعدم دعم أي طرف من أطرافه، إلا أنها أبت إلا الانحياز لأحد أطرافه، وللمصادفة هو الطرف الذي يحركه سليماني.

اللحظة الذهبية لإيران.. انسحاب أمريكا من العراق

بفضل قاسم سليماني سيطرت إيران على العراق، فالميليشيات التابعة لها تسيطر على الجيش والشرطة والقيادات السياسية التي صنعتها، مثل حزب الدعوة والمجلس الأعلى اللذين يسيطران على الحكومة، ومعظم الميليشيات المسلحة خارج الأجهزة الرسمية تابعة لها بشكل مباشر، ومقتدى الصدر تم أخذه لإيران في دورة دراسية كما قيل منذ 2008، وأصبحت خيوط اللعبة كلها في يده.

وعند انسحاب أمريكا من العراق في عهد الرئيس أوباما نهاية عام 2011، أعلن توماس سبوير نائب القائد العام للقوات الأمريكية في العراق، أن عدد القوات التي ستبقى في العراق 5000 جندي، وفقاً لاتفاق مع الحكومة العراقية، حيث يتواجدون في قواعد عسكرية محدودة بعدما كانوا منتشرين في معظم مدن العراق.

هذا الانسحاب قابلته إيران بترحيب شديد، وسهّلت عملياته عبر رجالها في العراق، فهو سيجعلها تسيطر على هذا البلد الجريح بشكل أكبر، عبر الميليشيات التابعة للحرس الثوري، وهو ما حدث فعلاً.

الثورة السورية تؤدي لزيادة نفوذ إيران بالعراق

فمع اشتعال الثورة في سوريا عام 2011، وتهديدها لحكم حليف إيران القوي بشار الأسد استغلّ الحرس الثوري الإيراني العراق كقاعدة إمداد استراتيجي للجيش السوري، في مواجهته للتمرد المسلح المندلع في كل نواحي البلاد.

فقد كان العراق هو نقطة تجميع القوات للحرس الثوري الإيراني والامتداد البري لقواته في سوريا، التي تواجه الثورة هناك، وبرز دور قاسم سليماني على السطح بعد ما كان يدور الحديث في الغرف المغلقة، بل أصبح سليماني يظهر علناً منذ 2012 في العراق وسوريا، على عكس المعتاد.

فقد كان سليماني يجمع المتطوعين الشيعة من أفغانستان ودول شرق آسيا في معسكرات بالعراق، قبل إرسالهم لسوريا لمقاتلة الجيش الحر والثورة السورية، كما كان العراق هو خط الإمداد الرئيسي لسوريا بالسلاح والعتاد، في تحالف واضح بين النظامين، وسط صمت أمريكي، التي لم تتدخل لقطع خط الإمداد الإيراني في العراق، رغم مزاعمها العلنية بأنها تدعم الثورة وضد النظام السوري.

سليماني لم يكن يستخدم التقية مثل العديد من زعماء الشيعة، بل كان واضحاً وصريحاً، مؤكداً أن تدخل قواته في سوريا هدفه حماية "الشيعة" ومراقدهم، كما يكشف هذا المقطع المسرب له من إحدى المجالس في إيران، والتي يبرر فيها سبب التدخل لقمع الثورة السورية.

حيث قال سليماني نصاً: "الدفاع عن حرم السيدة زينب هو دفاع عن حرم الإمام الحسين في كربلاء، وحرم الإمام علي في النجف، وحرم الإمام الرضا في إيران.

والله لو سقطت سوريا فكما فجّروا المقدسات في سامرّاء فإن كل مقدساتنا ستنتهي ولن يكون لها وجود".

ورغم أن الثورة السورية لم تكن طائفية، وشارك فيها العديد من الطوائف، إلا أن الخطاب الطائفي المتطرف حوّلها في النهاية لثورة سنية في مواجهة الشيعة، وهو ما زاد من شراسة المعركة، ودفع بمقاتلين من كل الجنسيات للقتال مع الطرفين بدافع ديني.

تحركات قاسم سليماني وداعش

تلك التحركات العلنية لأخطر رجل في الشرق الأوسط كانت تحت عين الولايات المتحدة، التي كانت تحتفظ بنفوذها القوي في العراق رغم انسحاب معظم قواتها؛ نظراً للتحالف القديم بين الطرفين، الذي لم يتم الإخلال به رغم المناوشات.

ومع بزوغ تنظيم "داعش" في العراق بسبب العنف الطائفي ضد المثلث السني والمظالم المتزايدة على أهل السنة من قبل الحكومة العراقية المدعومة أمريكياً وإيرانياً، انهارت معظم المحافظات السنية في العراق أمام قوات الجيش والشرطة الاتحادية، بعد أن تمكّن التنظيم من خداع بعض العشائر السنية، وإيهامهم أنه جاء من رحمها للانتقام للمظالم التي وقعت ضدهم.

ففي عام 2013 اندلعت احتجاجات سلمية في المحافظات السنية المهملة، للمطالبة بتحسين أوضاع المعيشة بتلك المناطق، خاصة محافظتي الأنبار وصلاح الدين.

إلا أن القوات الحكومية العراقية قامت بارتكاب مجزرة ضد اعتصام سلمي للعشائر السنية في مدينة الحويجة، وأطلقت الرصاص الحي والقذائف، وانتشرت حملات قمع مكثفة في أبريل/نيسان 2013، وسقط أكثر من 100 قتيل، واستعرت حملة الاعتقالات.

وكردّ فعل على تلك الحملات ظهر تنظيم داعش، الذي روّج لنفسه بالمظالم التي وقعت ضد أهل السنة، وبدأ التنظيم بكسب أرضية بين المواطنين العراقيين في المحافظات السنية، عبر تصعيده للخطاب الطائفي السني لمواجهة التوجه الحكومي الطائفي الشيعي.

بدأت المدن العراقية تسقط في يد داعش واحدة تلو الثانية، حتى سقطت أكبر محافظات العراق "الموصل" عام 2014، ووصلت حتى أسوار بغداد وأربيل، وأصبحت تهدد المدن الشيعية الرئيسية.

هنا برز التحالف الثنائي بين قاسم سليماني- أمريكا بشكل أكبر وأقوى، وبظهور واضح لشخصية سليماني، الذي أصبح يدير المعركة بنفسه منذ الانسحاب الأمريكي نهاية 2011.

ساعد سليماني في بروزِ دورِه إعلانُ تأسيسِ "الحشد الشعبي" من الميليشيات التابعة للحرس الثوري، بفتوى من المرجعية العراقية السيستاني، لمواجهة داعش.

 وكانت النواة الأساسية للحشد هي الميليشيات التابعة بشكل مباشر لسليماني، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر وقوات الصدر.

وتم تأسيسه في مارس/آذار 2014، بأوامر من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، أحد أكبر حلفاء إيران في العراق.

الجانب العراقي اعترف رسمياً بالدعم الإيراني في تأسيس الحشد، وتزويده بالأسلحة والخبرات العسكرية.

حيث صرّح رئيس الوزراء وقتها نوري المالكي قائلاً: "إن الحشد الشعبي أوقف تقدم داعش، ومنع انهيار الجيش وسقوط بغداد، ولولا الدعم الإيراني لَكان الوضع في العراق صعباً جداً، وإن هذا الدعم الإيرانيّ جديّ وسريع، بسحب السلاح من بعض القطعات العسكرية الإيرانية ومن مخازنها".

ظهر سليماني وهو يقود بنفسه عمليات الحشد في العراق، بينما يحلّق فوقه الطيران الأمريكي، الذي يقصف مواقع التنظيم في كل ربوع العراق، فقد كان دور سليماني في التحالف هو قيادة المواجهة على الأرض، بينما تقوم القوات الأمريكية بالقصف الجوي على المواقع.

ففي هذا المقطع ظهر سليماني على أطراف مدينة الموصل، التي يسيطر عليها داعش، ليتوعد التنظيم بالهزيمة في تلك المعركة التي شارك فيها الطيران الأمريكي بقوة لقصف المدينة.

وفي هذا المقطع يظهر قاسم سليماني مع قيادات بالجيش العراقي في أثناء الإشراف على تطهير منطقة حدودية مع سوريا، بعد طرد التنظيم منها.

يتّضح من تلك المقاطع وعشرات مثلها، أن سليماني كان يتجول علناً وبحرية تحت حماية القوات الأمريكية في العراق، وأنه كان صاحب الدور الأبرز في تجميع الميليشيات تحت سلطة التحالف الدولي لمكافحة داعش، وهو التحالف الذي تواصل حتى طرد التنظيم من العراق بشكل كامل.

قاسم سليماني في سوريا

كان لقاسم سليماني الدور الأكبر في إفشال الثورة السورية، فهو مَن قاد بنفسه معارك حلب وحمص وغيرها، وتُظهر العديد من مقاطع الفيديو سليماني وهو يخاطب في الميليشيات الأفغانية والإيرانية، التي تُعاون جيش النظام السوري في مواجهة الثورة.

كما ظهر سليماني قبل معركة حلب وهو يخطب في جنوده من الميليشيات، وتحديداً حركة النجباء، التي أسسها على عينه، ويحرّضهم على اقتحام مدينة حلب عام 2017.

سليماني ولبنان وفلسطين

كان من أبرز أدوار قاسم سليماني ويعتبر الدور الجيد له دعمه للمقاومة الفلسطينية، وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي في إيران، كان جزءاً من استراتيجيتها دعم بعض حركات المقاومة بالسلاح، في محاولة منها لضمان ولاء تلك الحركات، التي تعاني من حصار خانق بسبب الدول السنية المحيطة.

لم ينجح هذا الدعم في ضمان ولاء تلك الحركات بشكل كامل، فقد رفضت حماس الاستمرار في سوريا بعد 2011، بسبب قمع النظام للثورة السورية، ورفض حماس لهذا القمع، إلا أن ذكاء سليماني حافظ على استمرار العلاقات في حدها الأدنى، رغم أنها لم تعد مثل سابقها، بسبب موقف إيران من بعض ثورات الربيع العربي.

أما في لبنان فقد أسهم سليماني في جرّ تنظيم حزب الله للمعركة في سوريا، مقابل زيادة تسليحه، وشارك حزب الله رسمياً في العديد من المعارك داخل سوريا ضد المعارضة المسلحة، وأشهر تلك المعارك كانت معركة القصير، التي كان سليماني يقودها بنفسه، وتسبّب في مجزرة بين المدنيين بسبب القصف العشوائي، حيث أكدت العديد من التقارير الدولية أن حزب الله ارتكب جرائم حرب في سوريا.

أمريكا وإسرائيل وتصاعُد الخلاف مع سليماني

إن تاريخ سليماني لَيحتاج العديدَ من المجلدات لكتابته، وما ذكر في الكلمات السابقة هو اختصار لدوره المؤثر الأعوام الماضية في العديد من دول الشرق الأوسط .

إن تصاعُد نفوذ سليماني وفيلق القدس في سوريا والعراق دفع إسرائيل للتدخل بشكل مباشر لقصف أهداف للفيلق العشرات من المرات في سوريا، كان آخرها نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، في مطارات حماة والتيفور، هذه الغارات لم تكن إيران تردّ عليها مباشرة، ولا حتى تعترف بعدد قتلاها فيها، إلا أن كل التقارير الإعلامية تؤكد أنها المستهدفة لتقليم أظافرها.

أما في العراق فكان الوضع مختلفاً، فقد تكفّلت أمريكا بمحاولة تقليم أظافر إيران، فبعد التدخل السافر لسليماني في تشكيل الحكومة العراقية ومحاولة قمع ثورة العراقيين في بغداد والجنوب، رأت أمريكا أن سليماني أصبح هو الحاكم الفعلي للعراق بشكل يهدد مصالحها شخصياً.

فسليماني يسيطر بشكل مطلق على الحشد الشعبي، وجعل أحد أبرز مساعديه "أب ومهدي المهندس" نائباً لرئيس الحشد، بينما نزع صلاحيات فالح الفياض رئيس الحشد، لعدم ثقته به، وتوسع نفوذ الحشد، ليصبح أقوى حتى من الجيش والشرطة العراقية.

وتصاعد دور سليماني لدرجة أنه أصبح يُسهم في تشكيل الحكومة العراقية، فبعد استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي زار سليماني العراق، ديسمبر/كانون الأول الماضي، مع مسؤول ملف العراق في حزب الله اللبناني محمد كوثراني، لتمرير مرشح لخلافة رئيس الوزراء المستقيل.

تفاقم الوضع، الخميس قبل الماضي، عندما قصفت ميليشيات تابعة لفيلق القدس موقعاً به متعاقدون أمريكيون مع البنتاغون، مما أسفر عن مقتل أمريكي، الأمر الذي دفع أمريكا للردّ عسكرياً.

وصرّح مصدر في وزارة الدفاع الأمريكية لوكالة فرانس برس قائلاً إن القوات العراقية تبدو "غير قادرة أو غير راغبة" في وقف الهجمات الصاروخية. ونخشى أن تكون البنية الأمنية مخترقة. الحشد اليوم له السيطرة الكبرى على قوات الأمن العراقية، والعراقيون يقولون لنا ماذا يمكننا أن نفعل؟".

وردّت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" بقيام طائرات أمريكية بغارات على مقارّ لميليشيات "حزب الله"، العراقي التابع لفيلق القدس، واستهدفت القوات الأمريكية 5 قواعد تابعة لميليشيات "حزب الله" العراقي في الأنبار وسوريا، مما أسفر عن مقتل أكثر من 20.

تبع القصف محاصرة كتائب حزب الله والحشد الشعبي للسفارة الأمريكية، بقيادة معاوني سليماني المباشرين، وهم أبومهدي المهندس، وقيس الخزعلي، وهو ما دفع وزير الخارجية الأمريكي لنشر صورتهما وهم يقودان الميليشيات لمحاصرة السفارة، وحذر إيران وأعوانها من العواقب الوخيمة لهذا الفعل.

وصرّح دبلوماسي عراقي رفيع المستوى لوكالة فرانس برس: "العراق في خطر أن يصبح دولة منبوذة، معزولة عن بقية العالم مثل فنزويلا وكوريا الشمالية وغيرهما".

وجاء الرد الأمريكي النهائي، يوم الجمعة 3 مارس/آذار، باغتيال العقل المدبر لكل ما سبق، وإنهاء حقبة 40 عاماً من التعاون السري والعلني والمناوشات والصراع في الشرق الأوسط.

ما بعد سليماني

سليماني كان يمثل الصندوق الأسود للعلاقة القذرة بين أمريكا وإيران، فهو عراب تلك العلاقة ومهندسها، وهو مَن حافظ على شعرة معاوية بين الطرفين طوال الفترة الماضية، ومنع العلاقات من التدهور، حيث بقيت بين تعاون استخباراتي وعسكري، وتبادل مصالح، في مواجهة أعداء مشتركين مثل داعش والمتمردين السنة في سوريا والعراق.

إن قطع أمريكا لشعرة معاوية لا يعني الصدام المباشر بين الطرفين، فإيران منهكة بشكل غير مسبوق، بسبب العقوبات الاقتصادية، التي أدّت لتصاعُد الغضب الشعبي على النظام، الذي تجلّى باحتجاجات على رفع أسعار الوقود نهاية العام الماضي.

كما أن أمريكا لا تريد ضرب إيران بشكل مباشر قبل تفكيك أذرعها، التي ويا لسخرية القدر قويت شوكتها بفضل إسقاط الولايات المتحدة لنظام طالبان في أفغانستان، ونظام صدام في العراق، وسهّلت الطريق للأذرع الإيرانية للامتداد والسيطرة على الهلال الشيعي، مقابل تمرير مصالح مشتركة بين الطرفين.

إن تعاظم قوة إيران دَفَع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والبنتاغون للإعراب عن قلقهما، فقد حان الوقت لقطع تلك الأذرع دون صدام مباشر وحرب شاملة مع إيران قد تؤدي لإحراق منطقة الخليج.

ومن هنا أتت فكرة قتل سليماني، فقتله لم يتم في إيران، بل وهو في العراق قادماً من جولة شملت سوريا ولبنان وأمريكا، أوجدت المبرر الأخلاقي لقتل هذا الرجل الذي يشعل الحروب والفتن في 3 دول، وشعوب تلك الدول تمقته، وهو مَن بدأ الاستفزاز بقصف قواعد أمريكا وحصار السفارة.

مَن يظن أن أمريكا هي مَن وقعت في الفخ مخطئ، بل تركت إيران تتمادى عبر أذرعها، وتركتهم يحرقون بوابات سفارتها، لتُوجِد مبرراً أخلاقياً لضرب أهداف.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

جهاد أنصاري
كاتب وباحث
كاتب وباحث