لم نتمالك أنفاسَنا حينها، ولم نعُد قادرين على الإلمام بمشاعرنا الجياشة وهي تتدفقُ صوب أدمغتنا كسدٍّ عظيمٍ فُتِّحت بواباته عن آخرها، كان منظر الخزينة حين أطل علينا أخيراً نهاية السيق أخّاذاً، لونها الوردي كان يخطف أبصار الجموع التي تقف بذهول فنصبح جميعاً وكأننا عُمياناً، فلم نعُد نرى أو ندرك مَن هم حولنا من السياح والعرب وعربات الخيل والبترائيين.
لم أشعر بقلبي يخفق بهذه الشدة قبل تلك المرة، فقد كانت فرحتي فوق استيعاب فؤادي لفرحة أمي وزوجتي بمشوارٍ كهذا المشوار، ولوقوفي أمام الخزينة التي لطالما رأيتها على العملات الورقية وكُتب المدارس والبراويز التي كانت تزين جدران المنازل ومكاتب الحكومة والمحال، كانت سعادتهما أيضاً فوق الوصف ومن بعدها سعادتي.
مشينا عبر السيق الطويل الذي كانت أرضه مغطاة بشُحفٍ مِن الحجر في مناطق، وبالإسمنت في مناطق أخرى، لم تعد ذاكرة هواتفنا النقالة تحتمل أكثر من كثرة الصور التي التقطناها والأفلام القصيرة التي صنعناها ونحن بعدُ لم نخرج من السيق، يا إلهي كيف حفر الأنباط هذا المسار العجيب؟! وكيف نحتوه بهذه الصورة الرائعة؟
كان السيق طويلاً جداً لدرجة أننا كنا نجلس في أحايين كثيرة على المقاعد الخشبية التي انتشرت في المكان، أعجبني كثيراً أيضاً كثرة عمال النظافة الذين يجوبون السيق بحثاً حتى عن عقب سيجارة تبغ ملقى على الأرض أو أي شيء يمكنه التأثير على نظافة المكان. فالمكان نظيف وهادئ رغم كثافة الزوار، المكان يستوعب أصوات كل المتحدثين والمنبهرين، كانت الأصوات تصدر بطابع خاص بالمكان، لقد أحببتُ هذا الطابع الصوتي.
كانت ملاحظات أمي جديرة وحقيقية، وهي أن السيق تنبعث منه رائحة قوية وغير مناسبة أبداً في مكان عالمي كهذا المكان، وخاصة السيق، كانت الرائحة عبارة عن رائحة روث الخيول، رغم أن الروث غير موجود تقريباً فتتم إزالته باستمرار، لكن تبقى الرائحة بعد إزالته ربما لسوء التهوية في السيق الطويل بجدرانه الصخرية الشاهقة الارتفاع، وأيضاً لكثرة الخيل الغادية والرائحة ذهاباً وإياباً، ربما أيضاً أن لأنفاس الخيل رائحة تجمعت في المكان.
كان اقتراح أمي بسيط، لكنه غاية في الأهمية، وهو مثلاً وضع مبَخِّرات تطلق عبير البخور العربي في أرجاء السيق، وتنبعث أهمية هذا المشروع من عدة أوجه، أولاً لا أعتقد أن تنفيذه مكلف أو صعب، فهو فقط يحتاج لمتابعة تعبئة المبخرات التي تعمل على الفحم أو عُلب هلام المشعلات الذاتية كالتي تتواجد في بهو الفنادق. ثانياً تقع البتراء في دولة عربية ومدينة عربية عريقة كوادي موسى، فعندما يشتم السائح رائحة البخور في السيق سيُدخله ذلك في جو رائع للغاية يستشعر من خلاله خصوصية المكان وعراقته وعروبته التي ستنطبع في ذهنه أينما ذهب وحل، وأينما اشتم رائحة البخور التي ستعيده إلى حنين العودة صوب البتراء مجدداً وتجربة السير في السيق.
كان اقتراح أمي هذا غاية في البساطة والذكاء والحكمة، فهو يجعل السيق ذو رائحة زكية، ويضفي عليه مزيدا من الخصوصية العربية الأصيلة، ويطبع ذاكرة أبدية في عقل السائح تظل معه إلى الأبد حيث سيحن للعودة متى اشتم رائحة البخور في أي مكان حول العالم. هذا الاقتراح نبع من فطرة أمي السليمة وحبها الصادق للمكان.
فهل يجد هذا الإقتراح طريقا إلى إرادة الملك وقلوب وعقول المسؤولين؟
أنا متيقن بأنه سيجد طريقه وبأنه سيتم تنفيذه لبساطته وسهولة تطبيقه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.