لم يكن أحد يتخيل أن الحال سيصل بمورينيو إلى الاحتكاك بأحد مساعدي طاقم ساوثهامبتون؛ من أجل التجسس على التعليمات التي ينقلها إلى لاعبيه، حتى أشهر الحَكمُ بطاقة صفراء في وجهه، وفضحته الكاميرات.
بعد المباراة علق من كان "السبيشال ون" يوماً ما في الماضي القريب، على هذه الواقعة على وسائل الإعلام، قائلاً: "لقد كنت وقحاً، لكن مع شخص أحمق". جوزيه الذي حقق بطولة دوري أبطال أوروبا في عام 2004 مع بورتو، ليحصل على تكريم من رئيس البرتغال شخصياً وينال أعلى وسام في البلاد، قبل أن يتجه إلى إنجلترا ويحصد عدداً كبيراً من الألقاب مع تشيلسي، ليصنفه كثيرون بأنه المدرب الأفضل في التاريخ، والرجل الخاص الذي لا مثيل له، والشخص القادر على سحب بساط النجومية من اللاعبين والنجوم داخل الملعب، بسبب ما يُعرف عنه من كاريزما وشخصية تعشق الحروب النفسية في كل الاتجاهات- أصبح مثار سخرية المعلقين والمحللين والمشاهدين أيضاً.
في أقل من 10 سنوات، أقيل مورينيو من تدريب تشيلسي قبل منتصف الموسم، ولم يتحمله مانشستر يونايتد كثيراً، لتقوم الإدارة بطرده وتعيين سولشاير بدلاً منه، ليجلس الرجل في بيته فترة طويلة، بلا عروض أو اتصالات، رغم أن فرقاً عديدة عيَّنت أجهزة فنية جديدة، كبايرن ميونيخ الذي كان يبحث عن مدرب بعد إقالة كوفاتش وإنتر ميلان بعد رحيل سباليتي وريال مدريد وتشيلسي وأرسنال وغيرهم، حتى استسلم "سبيشيال ون" للأمر الواقع، ووافق في النهاية على تدريب توتنهام، لعلها تكون خطوة في الطريق نحو استعادة جزء من بريقه المفقود.
مورينيو ليس الوحيد الذي تراجع بهذا الشكل دون مقدمات، فالإيطالي كارلو أنشيلوتي حقق العاشرة العصية على ريال مدريد في 2014، وصنع مجداً لا يُنسى في ميلان، وحقق الدوري الإنجليزي مع تشيلسي في زمن سابق، ليعتبره كثيرون من خيرة مدربي الكرة على مر تاريخها، لكن مسيرته انقلبت إلى النقيض تماماً، بعد إقالته السريعة في بايرن ميونيخ، وفشله في الاستمرار مع نابولي، لينتهي به المطاف مدرباً لفريق إيفرتون، أحد فرق منتصف الجدول في إنجلترا.
تمعَّن معي الجملة مرة أخرى عزيزي القارئ: كارلو أنشيلوتي مدرباً لإيفرتون!
أرسين فينغر هو الآخر ليس أفضل حالاً، فالأستاذ الذي كتب اسمه بحروف من نور في تاريخ الكرة الإنجليزية، عرض خدماته على بايرن ميونيخ وحتى برشلونة، بعد رحيله عن تدريب أرسنال، لكنه اصطدم بالقواعد الجديدة للعبة المديرين الفنيين، ليكتفي بهذا القدر ويركز على الظهور في "استديوهات" التحليل، مثله مثل أي موظف متقاعد على المعاش، يحنُّ إلى أيامه الخوالي القديمة دون قدرة على عيشها في أرض الواقع المليء بالتحديات المغايرة.
كل ما سبق، على سبيل المثال لا الحصر، لأن العبرة ليست في التقليل من مورينيو، وأنشيلوتي، وفينغر، وغيرهم، لأنهم كانوا -وسيظلون- من عظماء التدريب في كرة القدم، لكن هذا السرد من أجل الحديث عن الصيحة الجديدة في عالم التدريب، حيث لا مكان للمدربين القدامى الذين بدأوا في الانقراض مثل الديناصورات، في سبيل ظهور أسماء شابة وجديدة، صغيرة بالسن وكبيرة في التخطيط والسعي للتعلم والتطوير والإتيان بكل ما هو جديد.
مورينيو.. نوكيا في زمن الآيفون
المدرب مثله مثل اللاعب، عليه ألا يقف عند حد معين أو يرضى بما يمتلكه من أدوات وأفكار وأساليب. ميسي بكل ما يملكه من موهبة، يتدرب يومياً على تعديل "ديفوهاته" وأخطائه. قبل 6 سنوات لم يكن يعرف كيف يسدد الركلات الحرة، أما الآن فهو أفضل مسدِّد للركلات الحرة. رونالدو، أيضاً، مع كبر سنِّه وقلة حركته خارج منطقة الجزاء، تحوَّل إلى رأس حربة صريح داخل الصندوق. كما يفعل هؤلاء اللاعبون، فإن المديرين يجب عليهم تطوير أفكارهم. لا يتعلق الأمر بالفلسفة والأسلوب، اللذين يشكلان هوية المدرب ويميزانه عن غيره من المدربين، الفلسفة التدريبية والأسلوب خطوط حمراء، لا الأنظمة والخطط واستراتيجية اللعب وطرق التعامل النفسي مع اللاعبين وطريقة التعامل مع وسائل الإعلام وإدارة النادي. وهذا ما ينقص مورينيو، لأنك تشعر وكأنه ارتضى بما يمتلكه ووقف عند حد معين من الأفكار، ولم يعد قادراً على الاستمرار فوق القمة. تستمع إليه في اللقاءات الاعلامية والمؤتمرات الصحفية فتشعر بأن الرجل صار كبيراً على التعلم، ليس بسبب شعر رأسه الأبيض، بل لأن كبرياءه تمنعه من أن يجلس مثل التلاميذ ليتعلم الجديد في كرة القدم. ليصبح "نوكيا في زمن الآيفون".
خدمات كارلو للأجرة
أنشيلوتي مختلف بعض الشيء عن البرتغالي، الإيطالي يحب الوجود باستمرار، بمعنى أنه لا يرفض أي عرض يصل إليه. القصة لا تتعلق بالمال أو الماديات، ولكن كارلو يعشق كرة القدم؛ لذلك لا يطيق البعد عنها، وهو ما جعله يوافق على تدريب نابولي، ليعمل مع رئيس نادٍ يعتقد أنه يفهم كرة القدم أكثر من غيره. ثم يتولى قيادة إيفرتون في أحلك فترات الفريق، ليقود كارلو فريقاً أكبر أحلامه هو حجز مقعد مؤهل لبطولة الدوري الأوروبي. باختصار حوَّل الإيطالي نفسه بنفسه من فئة المدربين "السوبر ستار" إلى "المدرب الملّاكي"، تلك الفئة التي تصلح لتدريب أي فريق، حتى لو كان فريق منتصف جدول دون داعٍ حقيقي.
فينغر: أن تحترق وكأنك شمعة
في المقابل، أُجبر أرسين فينغر على التعايش مع سياسات التقشف التي فرضها مشروع بناء ملعب الإمارات الخاص بالنادي، وعدم وجود موارد إضافية تسمح بشراء النجوم. في سنوات التقشف تحوَّل فينغر إلى مدير رياضي للنادي، أصبح "الكل في الكل"، ويمكن القول إنه أدار تلك المرحلة بنجاح نسبي. لكن بعد انتهاء حالة التقشف وإتمام عملية بناء النادي، عاد من جديد إلى مهنته الأولى والطبيعية كمدير فني فقط، دوره إعداد الخطط وتجهيز اللاعبين، وتحقيق النقاط، والفوز بالبطولات، وهذا ما لم يقدر الأستاذ على استعادته. مثل الموظفين الكلاسيكيين الذين يعيشون بمكاتبهم، في حين يقوم منافسوه بالحركة والركض والجنون على الخط، وتطوير لاعبيهم وتغيير خططهم وتطوير تكتيكهم، مع ترك الأمور المالية والاقتصادية وحتى التقنية والإدارية لجيش جرار من المساعدين والمعاونين. لقد تجاوزه الزمن وعبر من أمامه. يمكننا القول إن فينغر كان الشمعة التي احترقت من أجل أرسنال.
الاستثناءات التي تؤكد القاعدة
لكل قاعدة استثناء بالتأكيد، فهناك أسماء مثل بيب غوارديولا ويورغن كلوب، أصحاب خبرات ولديهم باع طويل في الملاعب. الأول لا يزال من صفوة المدربين بالعالم والثاني أيضاً كذلك، لدرجة أنهما يوجدان باستمرار في طليعة استفتاءات الرأي حول أفضل المديرين الفنيين بالعالم خلال الفترة الحالية.
غوارديولا يختار دائماً بذكاء، لقد فضَّل مان سيتي على اليونايتد مثلاً، حتى لا يقع في ظل السير أليكس فيرغسون، ويعيش أسير المقارنات بينه وبين فترة الأسكتلندي في أولد ترافورد، لذلك اختار السيتي حتى يصنع تاريخاً جديداً دون وجود ماضٍ يطارده باستمرار. كلوب في المقابل رفض كل العروض التي وصلت له بعد رحيله عن دورتموند، ليوافق فقط على عرض ليفربول، هذا النادي الذي يشبهه في الروح والحماسة والتقاليد، ولديه قدرة على الصبر عاماً واثنين وثلاثة من دون بطولات، حتى مرحلة الحصاد الحالية التي بدأت بالفوز بلقب دوري أبطال أوروبا في صيف 2019.
الذكاء في الاختيار، اولتعلم ومعرفة كل ما هو جديد، وعدم التكبر أو الاكتفاء بما تم تحقيقه، والأهم من كل ذلك، التقرب من المدربين الشبان ومعرفة كل ما يقومون به، هذه هي العوامل التي يحتاجها أي مدرب للبقاء في القمة، ليس بالضرورة أن يكون الأول أو حتى الثاني، لكن على الأقل يحافظ على موقعه ضمن الصفوة، وإلا فسيكون مصيره مثل الأساتذة الكبار الذين دفعوا الثمن غالياً، ولنا عبرة بمورينيو وكارلو وأرسين فينغر.
نجوم المستقبل
مع انخفاض أسهم مورينيو وأنشيلوتي، وعدم قدرة فينغر على ملاحقة الآخرين، ظهر جيل جديد من المدربين الشبان في ملاعب أوروبا من شرقها لغربها. في ألمانيا على سبيل المثال، فإن لايبزيج يتصدر بطولة البوندسليغا منفرداً، بقيادة مدرب شاب اسمه ناغلزمان، يبلغ من العمر 32 سنة فقط!
يؤكد الشاب في مقابلته التي أفردها الموقع التكتيكي "تقرير الكرة"، أن التدريب أفضل كثيراً من لعب الكرة، لأنك تكون مجبراً على تحسين أداء 22 لاعباً دفعة واحدة، وتفكر بالساعات في محاولة هزيمة خصمك خططياً وتكتيكياً قبل بداية المباراة وبعدها، معترفاً بأنه يقضي ساعات طويلة من أجل متابعة مدارس الكرة المختلفة، ومحاولة معرفة كل ما هو جديد.
يقول عنه محلل البوندسليغا بصحيفة الغارديان البريطانية، رافائيل هونغستين: "مثله مثل معظم المدربين الشبان في ألمانيا، تأثر يوليان بالمدرب رالف رانغنيك، ولعبة الضغط التي اشتهر بها في أكثر من فريق، آخرهم لايبزيغ". لكن يوليان يردُّ في حوار سابق، مؤكداً أنه يفضل دائماً الجمع بين الضغط والاستحواذ، لأن فرقه يجب أن تؤدي بشكل جيد مع الكرة ودونها.
اسم آخر صعد إلى القمة سريعاً في إيطاليا، هو سيموني إنزاغي، الرجل الذي حوَّل لاتسيو إلى مارد حقيقي يستطيع الفوز على يوفنتوس بسهولة في الدوري والكأس والسوبر الإيطالي. قائد النسور مدرب مرن للغاية خططياً، متمكن من أدواته ومؤمن بكرة التحولات السريعة، لذلك نجح في جعل فريقه يلعب بطريقته نفسها، سواء في تقليل الفراغات بين الخطوط، أو اللعب العمودي المباشر، أو ضرب خصومه بالتحولات القاتلة.
الفكرة في بزوغ أسماء مثل إنزاجي وناغلزمان وغيرهما أنهم آمنوا بالتعلم، هذه الكلمة التي يحتاجها الجميع من أجل الاستمرار، فمدرب لايبزيج يشاهد مباريات عديدة لمختلف المدارس الكروية، في حين قائد لاتسيو منفتح بشدة على متابعة الدوريات الأخرى، جنباً إلى جنب مع دوريه الإيطالي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.