هكذا يفكر المشاهد العربي.. هل كرة القدم مجرد صدفة مؤامرة كبيرة؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/01 الساعة 12:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/01 الساعة 12:16 بتوقيت غرينتش
محللي كرة القدم لم يدعوا شيئاً للصدفة

في مقهانا العتيق، يجلس ثلاثة رجال، ينهمكون في نقاش بيزنطي يتجاوز حدود العقل، يتبادلون أصابع الاتهام، يصر اثنان منهم تمام الإصرار على أن هدف ميسي بالأمس كان محض صدفة، بينما مال الثالث للتساؤل عن تجرد ليونيل من مفهوم الصدفة بعدما أعاد نفس اللقطة عشرات المرات.

يقترب النادل وهو أحد الصاخبين دوماً في أي مسألة تخص كرة القدم، يقر لسبب غير معلوم على أن الهدف ما هو إلا ضرب من خيال، لا يمت للواقع بصلة. يؤمن النادل بأن ليونيل من كوكب آخر، ليخرج بالمسألة عن طريقها الأصلي، توقف النقاش لأنه لم يعد هنالك مدى وأفق يستوعبه ليسير به نحو نهاية مرضية.

أعاد صاحب المقهى وهو رجل طاعن في السن غني ذو نفوذ، مقدس الكلمات، لا يكاد يفكر حتى يسلب الحديث من الجالسين، النقاش للحياة. وأكد أن ما حدث بالأمس مؤامرة، نعم مؤامرة، و لك أن تتصور ذلك، لقد تاه بالنقاش خارج سكته وفرغ كل جملة من محتواها، ليحول كرة القدم إلى مجرد رهانات ومراهنين وشركات كبرى تتلاعب باللاعبين والمدربين.

لينتهي النقاش بلا غالب ولا مغلوب.

من الصعب أن نشرك الثلاثي في جناية لا يعرف جنايتها أصلاً، ولا تبدأ بسبق الإصرار أو الترصد، وتختفي عنها شبهات التعمد. لا يمكننا أن نبادر بتبادل الاتهامات مجازاً، دون الاستقرار على تعريف ما حدث بالجريمة من عدمها، وإن اتفقنا أنها جريمة فما هو المدى الذي وصلت إليه ومن الضحية؟  

هنا يأتي دور المحلل الفني الذي يتوجب عليه تفكيك كل الوضعيات واللقطات للوصول إلى نتيجة نهائية تبرز تسلسل اللقطات المنطقي والسببي. يجب عليه أن يخبرنا كيف حدثت تلك اللقطة بذلك الشكل في تلك الدقيقة. بدلاً من الإصرار على بعض التعبيرات المبتذلة مثل: هجوم مرتد، تنظيم دفاعي محكم، مباراة تكتيكية، أو الصدفة.

ألم يشاهد المتفرج كل ذلك؟

الوظيفة الأبرز الملقاة على عاتق المحلل هي وضع المشاهد في الخط الزمني للأحداث، والتعمق أكثر في التفاصيل، وتحليل كل هجمة ولقطة وخطأ حسب وضعيتها وتوقيتها. باختصار يجب على المحلل أن يخرج المشاهد من نفق السطحية.

الصدفة.. ظالم أم مظلوم؟

قبل أن نتهم الصدفة بأنها المحرك الرئيسي للأحداث، علينا أن نضع تعريفاً لها. إذ لا يمكن اعتبار كل ما هو خارج عن المألوف محض صدفة أو معجزة أو ظاهرة أو أي مفهوم تعريفي مبهم يضفي غموضاً دون تقديم أي تفسير.

تحمل الصدفة وجهين، وجهاً فلسفياً يعرفها مطلقة، وهي تحمل في الفلسفة مفهوم حدوث الأشياء دون سبب، أي دون محدث، والتعريف ناقص حسب المتعمقين في الفلسفة، لأن لا شيء يقع دون مسبب رئيسي، وإلا لكان وجودهُ ‏واجباً.

أما علمياً، فلا توجد صدفة مطلقة، بل نسبية فقط، وهي التي تحدث وفق توافق عدة أشياء. على سبيل المثال، تسجيل رونالدو هدفاً بعد ارتقاء عالٍ من نفس الارتفاع في عدة مناسبات مختلفة ليس صدفة، فهو يقع وفق نسق ممنهج وعن عمد. قد يخطئ المدافع، وقد يرتفع رونالدو ويصل للكرة في اتفاق بين مجموعة من الأشياء ليسجل، من ضمنها التوقيت وقوة الكرة وسرعتها، لكن الصدفة ليست عاملاً هنا. 

ثورة التكنولوجيا

كل شيء أصبح منطقياً نوعاً ما، أو قابلاً للمنطقة أي أن يكون منطقياً. ومع أن كرة القدم لعبة غير منطقية، وعشوائية من الزاوية المقابلة للتخطيط. لكن التحسينات الجديدة على الكاميرات أو التقنيات التي تنقل المباريات سهلت إلى حد كبير فرص إيجاد أجوبة مقنعة حول كل تفصيلة معينة في اللعبة. مع الوضع في الحسبان أن كل التوقعات قد يضرب بها عرض الحائط، وحتى ذلك لا يدخل في الحظ أو الصدفة.

مع تقدم هذه الخاصيات المحيطة بالملعب، سار تضمين كل صغيرة وكبيرة متاحاً، فعدد من المحللين يلجأون إلى مواقع إحصائية لإيجاد حلول معادلاتهم وكسب رهاناتهم ومعادلاتهم التكتيكية. مثل إحصائية الـXG التي تقيس نسبة الأهداف المتوقعة، حسب نوعية الفرص المنتجة وبعدها عن المرمى.

التحليل الفني قتل الصدفة

لا تقف هذه الإحصائية عند الأهداف فقط، بل تتجاوزها إلى قياس جودة التمرير والتمرير المفتاحي، مع وضع احتمالات أن تنتج التمريرة هدفاً، إضافة إلى حساب طول وقصر التمريرة، ومدى صعوبتها، ونواحي تمريرها، وهوية الممر. 

لضمان توقع طريقة الهجوم أو بناء اللعب للفريق الذي يبحث عنه المحلل إحصائياً.

لتصبح الصدفة بلا مقعد في طاولة نقاش كرة القدم. 

التكتيك يقتل الصدفة

التكتيك هو أكبر دليل على تقليل تأثير الصدفة على كل حالة تحدث في كرة القدم، لذلك وضعت الأجهزة الفنية نصب أعينها تحليل المباريات لتحسين وضعيات الفريق سواء هجومياً أو دفاعياً، أثناء الاستحواذ على الكرة أو أثناء فقدها، لتقييم كل لحظة ووضع تدريب خاص لتلاشي كل نقطة ضعف.

مكمن التحول في تقليل الصدفة هو إحدى أعمال المدير الفني لكل فريق، عن طريق تدريب لاعبيه على كل وضعية من الممكن أن تقابلهم في الملعب بدءاً من الكرات الثابتة، والهجوم المرتد، محاولة افتكاك الكرة.
كل ذلك يدخل ضمن دراسة التفاصيل لتقليل خطورة الخصم، وبالتالي منح عامل المفاجأة والصدفة أقل نسبة تأثير ممكن إن عجز عن إعدامها تماماً.  ولا يعني حدوث مفاجأة حضور الصدفة وسيطرة منطقها، بل على العكس فما الاستثناء إلا تأكيد للقاعدة.

مهارات اللاعبين تلغي احتماليات المؤامرة

وحتى نتوسع أكثر، يمكننا العودة إلى تاريخ كرة القدم منذ نشأتها وحتى وقتنا الحالي، لنرى التطور في الأساليب والخطط والاستراتيجيات والأدوار التكتيكية، ما يضمن لك تحويل الصدفة إلى مجرد وهم، فهي لا تعني شيئاً. وعند هذه النقطة تنتهي الحجج الدالة على وجودها، أو لنقل أنها موجودة بنسبة ضئيلة.

ما لا تدركه الإحصائيات

تغطي الإحصائيات جانباً مهماً كبرهان يشمل عديد الوضعيات، قد تبدو ظالمة، أو غير منطقية، ولكنها في جانب مهم تبقى دليلاً يرجع إليه كأساس صلب، ومع ذلك فإن كثيراً من الحالات لا تدخل في العدد المهول من الأرقام، بل يتوصل إليها بتجميع جزئيات من حالات متفرقة.

فبناء الهجمة لا يمكن إيجادهُ في مواقع الإحصائيات مثلاً، كيف يدافع دييغو سيميوني؟ كيف يهاجم غوارديولا بالإحصائيات؟ كيف يفكر كلوب قبل الضغط على الفريق الخصم؟  

وخاصية التوقيت هذه هي القاتلة للصدفة، وأيضاً لا تستطيع توقعها، ولا تغطيها الإحصائيات. ولا يعني هذا أنها جاءت من العدم، بل هي تسلسلات لمجموعة من التحركات التي تسبق الوصول للهدف، فلكي يخطئ المدافع في وجه المهاجم على هذا الأخير أن يضغط لافتكاك الكرة، مع دخول ترابطات ذهنية وتكتيكية وبدنية في المسألة.

لسنا هنا لتبادل الكليشيهات والاتهامات، بل بكل بساطة لدحض فكرة أن كل ما يحدث في كرة القدم صدفة، فإذا صدقنا أن كل الوقائع في اللعبة صدفة، فلماذا يسجل ليونيل ميسي بنفس الطريقة مراراً وتكراراً؟ 

ولماذا ينجح رونالدو في الكرات الرأسية منذ خمس سنوات وحتى اليوم؟

الصدفة لا يمكنها شرح ذلك، بل الأنساق السببية المنطقية هي التي يمكنها شرح ذلك.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زيد شقيري
كاتب رياضي يسعى إلى الركض خلف المعرفة كل يوم.
كاتب رياضي يسعى إلى الركض خلف المعرفة كل يوم.
تحميل المزيد