أعزائي في طابور الانتحار .. هذا هو حالي حين أخذت قراراً بالانتحار

عربي بوست
تم النشر: 2020/01/01 الساعة 14:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/01 الساعة 14:17 بتوقيت غرينتش
a line of people walking single file off a cliff...the funnny thng is.....this is the only photo in my portfolio that has NO retouching.

أنا لم أُلحد، لكنني أفكر في نمط الأسئلة الوجودية التي تضربني بحيرة من أقصاي إلى أقصاي، كدت أنتحر، ألتزم بفكرة الدين؛ لأنني أخاف أن أقع في السراب، ألا أجد مَن أناديه أو ألجأ إليه إن مرضتُ مثلاً.

هكذا أخذ بيدي صديق يُمعن التفكير في الأسئلة الوجودية التي يعتبرها البعض إلحاداً.

أقدم على الانتحار مرتين، وسألني: لماذا أنا الآخر لما لم أنتحر فوقفت وتخيلت مشهد انتحار.

سألت نفسي: لماذا لم أفكر في الانتحار؟ لو لم يكن الانتحار كارثة دينية وذنباً عظيماً.

كيف كنت أفضل إنهاء حياتي وعلى أي شاكلة؟

هل أنتحر عارياً شانقاً نفسى على شجرة عتيقة؟

ما الرسالة التي أريد تركها من ومع العري لمن سيشاهدونني بعد الموت؟

إنني كنت مثقلاً جداً ووَدِدتُ أن أتخفف في اللحظات الأخيرة من كافة القيود والأفكار والمشاعر السلبية، والاكتئاب، وحبوب التريبتازول  المنومة والمضادة للاكتئاب التي تثقل نطقي  للكلمات؟

أم كي أتخفف من وطأة غبار الحرب الذي التصق بملابسي في  خان يونس، مخيم البريج، تل الهوى، جباليا، إدلب، سراقب، تفتناز، قري حماة الشمالية، حلب الغربية وريف اللاذقية؟

غبار القصف والبراميل المتفجرة لا يفنى، من المؤكد أن مسام جسدي تشبعت به بعد قصف السوق في إدلب ذات ظهيرة، جلدي به رائحة حريق مطار تفتناز بالكامل من الأسوار ومدارج الطائرات الحربية وحتى العشب الشيطاني على أطرافه  – حريق خام- كامل التفاصيل، رائحة الجثث المتفحمة على مَهل في سراقب تحت الأنقاض، لم ننقذهم تركناهم كي يأكلهم التراب وبقايا الهدم؛ لأن الأعداد كثيرة حد الانهيار والجنون والبكاء الهستيري بلا توقف.

أشتم يدي الآن وأنا أكتب من الخلف.. نفَس طويل، أغمض عيني، نفس آخر طويل.. ما زال هناك، تماماً هي نفس الرائحة التائهة لا تغيب،  رائحة القصف والحرب الوحيدة بالعالم التي تحتوي على لون.. لون يراه كل مَن كان في لحظة القصف، رائحة بلون رمادي شفاف، لكنها تُرى.

للخائفين، الباكين، الهاربين، الأطفال الذين لا يبكون من هَول الانفجار ووجوههم معبأة باللون الرمادي أو الأبيض القاتم جداً من أثر انهيار المنزل المقصوف، الأمهات اللاتي يبكين دون نحيب يحاولن وضع أحجبتهن فوق رؤوسهن ويتعثرن بمشيتهن ووجوههن معفرة بالتراب والدموع معاً، إلى الرجال الراكضين لمكمن القصف ومكان القصف المحتمل بالملابس الداخلية البيضاء لإنقاذ البقية الباقية من الحياة، كل هؤلاء يرون لون رائحة القصف ومعهم الشهداء قبل الشهقات الأخيرة.

وأنا رأيتها ذات ثلاثين قصفاً معهم جميعاً، رائحة لا تُزكمك، لكنها تبقى تحرق في ثغرات أنفك، مزيج بين الرماد والتراب والكربون والجمر تبقى بك كسرطان ينهشك، يبدأ من أنفك وينتهي بطنين في رُوحك.

جسدي يحمل تلك الرائحة كاملة، لا يمكن أن تتسرب منّي، إنها كاللعنة، كتعويذة عقابية تَمسخ رُوحك لا شكلك، أتسرب من نفسي لكن هذه الرائحة تبقى بي دون خفوت أو تحلل.

إن انتحرت عارياً سيفقه كل الحضور ممن يشاهدونني ويلعنونني ويصورونني ويشيحون بأعينهم عن عورتي ويتأسفون عليّ ويُشيرون بأيديهم لجثتي بأن رائحة جسدي بها رائحة حرب لم تنتهِ وقصف لم يهدأ.

الانتحار فكرة مزعجة وشيطانية وبها لذة اليأس الأخير

هل أنتحر بخيط من خيوط صنانير الصيد بعد أن أعده بشكل مزدوج كي يصبح أكثر متانه في تحمُّلي؟!

إنها فكرة أخرى متطرفة.. عار ينتحر بخيط صيد حاد شفاف.

هل أعاقب ذاتي، سيسأل أحدهم ما الفارق بين خيط عادي وخيط صيد للانتحار الأمر كله يُفضي للموت؟

هل هذا تلذذ بتعذيب الذات؟

خيط الصيد ناحِر حاد، سيجعل الدم انسيابياً على جسدي العاري، لن يراه الناظرون بسهولة سيعتقدون أنني منتحر في الفراغ، سيخافون، ربما سيتراجعون من هيئة الدم واللاشيء المرتبط به جسدي وكأن الهواء شنقني وأمسك بي معلقاً.

خيط الصيد سيسمح للدم الغاضب في جسدي بالاندفاع بسرعة ورسم كل ما بداخلي من غضب بعشوائية على جسدي، لن يستطيع أحد فك طلاسم الغضب المرسومة على الجسد العاري بالدم، لكن هذا الدم قد يرسم على جسدي هياكل طولية متداخلة لثماني جثث دفناها جنوب سراقب تحت شجرة مسرعين في الليل ، قُتلوا من أثر القصف والرصاص العشوائي للقناصة، كان منهم طفلان جامدتن تماماً تبوّلا على أنفسهما في اللحظات الأخيرة قبل الموت وربما ماتا بخضة دماغية لا من أثر الهَدم.. كانت أجسادهم سليمة وأرواحهم تُدفن والخوف عالق بملابسهم وملامحهم.

الدم المتسرب من رقبتيّ قد يرسم بقعة هائلة من الدم حمراء ثقيلة تنشف على سُرتي تماماً، تُلخص غُصة وَجعي على مَن "هُرِسَ" صديق قديم بقصف من طائرة أباتشي أمريكية، وقت أن تركنا في الجانب الأوروبي من المدينة وذهب لأطراف الموصل كي يورط نفسه في القتال الطويل.

سيرسم الدم منحنى بيانياً لانخفاض مؤشر الثورة نحو الهزيمة على فخذيّ وركبتيّ السمراوين بعد أن كانت عروقنا تنبض بالدم والهتاف في الميدان حين كان هناك يناير/كانون الثاني وكانت هناك 2011.

قريباً من الإبط وجانب صدري الأيمن سيرسم بالدم المتسرب من الرقبة المنحورة.

مربع عشوائي الأطراف به جثة مفصولة الرأس لزميل دراستي في فصل 2/3 بمدرستي الابتدائية حين سقط بين مقطورتي جرار كنا نتشبث به خلسة كي نصل للمدرسة سريعاً، سقط هو وهُرِسَ تماماً وظللت أنا ممسك بالجرار أتقيأ على نفسي ولا أبكي حتى وقف السائق من صراخ المارة .

في منتصف القناة الصدرية  من أعلى الرقبة وبين جانبيّ الصدر تماماً حتى الوصول لحدود العانة سيرسم الدم اكتئاباً طويلاً للغربة القسرية، دم ثقيل به ندبات الليالي الجافة الباردة، والوحدة المطلقة في شوارع المدينة، وأسى الحماقات المتلاحقة، وحسرة الضبابية التي أخذت بي لهذا الانتحار المفترض على شجرة في أقصى المدينة بحبل صيد شفاف لا يرى بجسد عارٍ تماماً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد الطوخي
صحفي مصري
صحفي مصري