جدل وفاة نورهان نصار.. هل يوجد مكان للدين والأخلاق في حياتنا؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/31 الساعة 16:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/01 الساعة 17:28 بتوقيت غرينتش
الراحلة نورهان نصار

كشفت المشاجرات الإلكترونية والاشتباكات اللفظية على فيسبوك أثناء الجدل الدائر حول الراحلة نورهان نصار العديد من الأمور الهامة حول قضية الإيمان من عدمه في الأوساط العربية. ومن أهم ما كشفه ذلك الجدل هو أن الكثير لا يزال يتخيل أننا نحيا في زمن تكون فيه الأنساق العقدية والفكرية قائمة ومتماسكة وواضحة وقادرة بذاتها أن تشكل إطاراً مرجعياً للجميع. ونعني بهذه بالأنساق العقدية والفكرية كلاً من الأديان والأيديولوجيات والتصورات الفلسفية عن العالم. تخيل أن هذه الأنساق متماسكة وقائمة بذاتها يؤدي إلى نوبات من الخوف والفزع عندما يتسلل شعور بتزايد عمليات التشكيك في تلك الأنساق، خاصة عندما يتم ذلك بشكل واضح ومعلن. وينضم الاضطراب للفزع عندما يكون  يحظى هذا التشكيك بشرعية اجتماعية.

كيف يحدث ذلك التشكيك؟ 


لم يحدث التشكيك في قدرة وسطوة تلك الأنساق العقدية على العقول والقلوب صراحة وبشكل مباشر، على الأقل في المسألة التي نناقشها، ولكنه حدث عن طريق تقرير عدد كبير من الناس أن يدمجوا المخالف للنسق العقدي القائم والسائد اجتماعياً بشكل طبيعي وعادي.

ليتسبب ترحم أصدقاء الراحلة نورهان نصار عليها في مشكلة ومعضلة للكثير من الناس، لأن فعل الترحم ذاته يمثل استيعاباً جماعياً لشخص يعتبر مخالف في نظر الدين والمنتمين له. وبالتالي اعتبر ذلك بمثابة إعلان قبول أو إقرار باهتزاز قوة تلك الأنساق العقدية والدينية القائمة في المجتمع، وإعلان أنها لم تعد المرجعية للكثير من الأفراد. 

هذا الموقف الفزع والقلق من البعض هو موقف يعيش خارج الواقع تماماً، لأن عصرنا ولحظتنا الحالية –شئنا أم أبينا، أحببنا أم رفضنا- هي لحظة اهتزاز كامل لكل الأنساق ولكل النقاط المرجعية الكبرى ولكل الهموم القصوى. وأن أفضل وصف لهذه اللحظة هي أنها لحظة "عابرية" بمعنى أنها لحظة مليئة بما يسميه فرويد "الجمهور العابر". وذلك الجمهورالعابر لا يمتلك أي أنساق أو مرجعيات مكتملة عن أي شيء بالضرورة، وغير منتم لأي مرجعية كبرى قائمة، بل وخارج على معظمها. وتشمل هذه "العابرية" السياسة والدين والفن والقيم الأخلاقية. وبحضور ذلك "الجمهور العابر" فإنه يصنع حالة "قلب وتدنية" لكل المرجعيات القائمة.

بتبسيط، فإن هذا الجمهور العابر يطالب بتجريد كل المرجعيات الكبرى، الأديان والفلسفات والمؤسسات والنظم الاجتماعية، من أحقيتها في إضفاء أو سحب مشروعية فعل ما أو كيان ما. ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ويطالب بإعطاء موقفه شرعية مقابلة لشرعية كل المرجعيات الأخرى، إن لم تكن شرعية منافسة لها على أرض الواقع وأكثر أحقية من المرجعيات الأخرى في نظره. ولا يرى ذلك الجمهور أن من الضروري أن يمتلك أي نظام أخلاقي أو ديني أو فني متكامل بديلاً للنظم التي يرفض مرجعيتها وسلطتها.

 
وقبل أن يستشيط أحدهم غضباً، دعونا نتذكر أن السؤال عن البديل هو سؤال شديد المحافظة، عادة ما يسأله المتدين عندما يتشكك أحدهم في الدين معرفياً أو سياسياً. وأن السؤال عن البديل يهدف إلى إبقاء الواقع على ما هو عليه ليس إلا دون الاستجابة إلى متغيراته أو حتى الإقرار بها. لينم هذا السؤال عن خوف من مواجهة اهتزاز الواقع وفقر في الخيال.  

أفول الآلهة

هنالك جملة للمفكر الإيراني داريوش شايغان أحب استعارتها دوماً لوصف سياقنا الحالي، يقول شايغان: "نحن في لحظة أفول الآلهة" أو احتضارها. والمقصود بالآلهة هو كل النظم الفكرية المتكاملة أياً كان مصدرها أو مرجعيتها. هذه اللحظة شديدة العمق لدرجة أن كل محاولات تغطيتها تفشل فشلاً ذريعاً. ولذلك يحاول البشر تجاهلها وصم آذانهم عنها ويبدأون في تصديق أنها ليست موجودة. وعندما يأتي حدث يؤكد أننا في قلب تلك اللحظة، يصاب البشر بنوبات الفزع والقلق. 

في مقابل هذا الموقف، من المفترض أن يتم قبول هذه الحالة باعتبارها أمراً واقعاً بالفعل، والتنبه لها كسياق نعيشه ويعيش فينا. ومعرفة أن أياً من الدين والحداثة والعلم والفلسفة أو أي نسق فكري متكامل أو أي نقطة مرجعية أو أي مصدر للحقيقة لن يستطيع البقاء في عصرنا الحالي -البقاء فقط فضلاً عن تقديم نظم معرفية وأخلاقية وجمالية- إلا عن طريق بنائه بناء جديداً تماماً قادراً أن يتجاوز لحظتنا الحالية التي تقتل الآلهة. تلك الأبنية الجديدة هي التي من الممكن تسميتها استعارة من شايغان أيضاً "الآلهة التي لم تولد بعد".

حتى يحدث ذلك، فإننا نعيش في وضعية "قلب" و"تدنية" كما يقول تيرنر. ليصبح الوضع العادي هو أنه لا توجد مرجعيات يتفق عليها الأفراد، سواء في مجال الدين أو الحقيقة أو الفن أو الأخلاق أو النظم الاجتماعية أو الجمال أو إدارة الجسد أو تنظيم الجنس. كما أن أصحاب المواقف غير المعترف بها من النظم الاجتماعية القائمة والأفراد الموالين لها، سيزداد ظهورهم باستمرار وسيبقون مطالبين بحقهم في الاعتراف والإفصاح علانية عن مواقفهم. 

هل يعني ما سبق أن حياتنا لا مكان بها للدين أو العقل أو الأخلاق؟ 

الإجابة هي لا، لكن المقصود هو أن كل ما سبق لم يعد يمتلك القدرة على تبرير وجوده بنفسه فقط. على طريقة، هذا ما وجدناه، ولطالما كانت هكذا، وستظل هكذا.

وإنما سيتوجب على كل شخص يتبنى رؤية ما للعالم ويستند لمرجعية ما في رؤيته ويتعلق بها أقصى ما يكون التعلق، سيتوجب عليه تحمل مسؤولية تبريرها والدفاع عنها أمام نفسه أولاً وسيكون من الصعوبة بمكان مطالبة الجميع باتباعه وتبنيها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
طارق حجي
كاتب وباحث
كاتب وباحث
تحميل المزيد