روزنامَتي الشخصية هي شيءٌ شبيه بذاكرتي، شيءٌ يحمل معه من الذكرياتِ الفاجعة مع تكرار أيامها عبر السنين تماماً كما تحملها تلافيفُ ذاكرتي الأبدية، ظننتُ عند خروجي من سوريا أنَّ روزنامتي الأجنبية ستكون أكثر بهجةً من تلكَ التي دوَّنت عليها تواريخ الأيام السوداء التي عايشتها في مدينتي دوما على بعد 11 ميلاً شمال شرقي العاصمة دمشق، ولكنَّها لم تكن، ولربما أحدها هو الخامس والعشرون من سبتمبر/أيلول عام ٢٠١٢ عندما انتشرت الأخبار في حيِّنا على كورنيش دوما أنَّ قوات النظام ستقتحمُ المنطقة، وهو بالفعل ما حدث لاحقاً، ما أذكره أنَّنا تكوَّمنا في السيارة كالجثث، عائلتي كلها، بثيابنا التي نرتديها فقط، ثم عبرنا الكورنيش المرصود بالقناصين وحواجز نظام الأسد، كانت مئات العائلات ليلتها قد توجهت نحو الحاجز ليسمح لهم بعبور الطريق دون أن يستهدفهم القناصون، ولم تكن المنطقة التي هربنا إليها وسط البلد أكثر أماناً، ولا حتى عشرات العائلات التي قضت ليلتها تلك باحثةً عن ملاذٍ تنام فيه، ليلتها لم يحمل أحدٌ منأهل الحيِّ معه أيَّ شيء، سوى اللهمَّ أحد جيراننا الذي كان يحمل أمه!
ولم تكن تلك الليلة أول مرة نهرب فيها من مكانٍ إلى آخر، ولم تكن الأخيرة، ولكنَّ رؤية مئات الناس يتركون بيوتهم تحت جنحِ الليلِ ويعبرون الشوارع تحت رحمة القناصين، كان له ندبة خاصة، ولطالما تجددت تلك الندبة بتكرار مرات الهروب.
والمشهد نفسه بقساوته وقماءته يعادُ اليوم وللمرة الألف في معرة النعمان ومحيطها، آلاف العائلات تترك بيوتها، وأشياءها، وقبور أولادها، وتهربُ نحو المجهول، المجهول مجدداً، المجهول الذي غدا واقعاً حتمياً علينا كسوريين، يحملون ما يستطيعون من ذكريات البيت، من أغطيته التي ستدفئُ بردهم تحت شجرة زيتونٍ في ظلِّ سماء كانون الباردة هذه، وصور شهدائهم، والكثير من الدموع.
يمكنني تماماً أن أتخيل ذلك الموقف، أن تفرَّ بروحك لأجلِ مَن تحب، زوجةً أو والداً أو ولد!
أن تهرب من المكان الذي اعتدتَّ رائحته وصباحاته، من تحت السقف الذي يقيكَ سؤال الناس عن مكانٍ تستظلُّ فيه من حرِّ شمسٍ أو من مطر شتاء، أن تهربَ بروحك دون أن تلقِ السلام على قبور الرفاق، وأن تودعهم، أن تهرب -يا عزيزي- بحثاً عن القشَّة تلك التي ستتعلق بها، وليتك تجدها!
تسع سنين إلى اليوم، تسع سنين ولازال سيناريو التهجير يتكرر، تسع سنين، ولازلنا نترك بيوتنا هرباً من جنود الوطن، أولئك الجنود الذين اتخذوا الديكتاتور إلهاً، يأتمرون له وحده، فإن قال لهم جزّوا الرؤوس، فعَلوا، ثم إذا خلَت البيوت من أهلها، سرقوها، وحولوا البيوت إلى ركامٍ يصعب عليك إيجاد ذكرياتك فيها مجدداً.
وفي صفِّنا جنودٌ آخرون للوطن، لم يجدوا في الدفاع عن معرة النعمان، التي فتَحت قلوبها وأبوابها للمهجرين من كل بقاع الوطن، لم يجدوا فيه مغانم كتلك التي في درع الفرات ونبع السلام و… فلم يستهوِهم الدفاع عنها، بوصلتهم مكاسبهم، ورايتهم جيوبهم، فمَن أفاض عليها بالمزيد، وجبَت له طاعتهم.
فلا طوبى لنا اليوم بهم .. لا طوبى لنا بهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.