كيف أوقفت كرة القدم الحرب العالمية الأولى يوم الكريسماس؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/25 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/12/25 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
جنود ألمان وإنجليز يلعبون كرة القدم في منطقة "لا أحد".

المكان: بلجيكا.
الزمان: الحرب العالمية الأولى، ديسمبر/كانون الأول 1914.

الثلوج تتساقط على أرضٍ جفّت الدماء عليها لتُحيل لونها من الأبيض إلى الأحمر الداكن، صمت تام خيّم على المنطقة الفاصلة بين خنادق مُعسكري القوتين المتحاربتين، المنطقة المُحرمة التي تُعرف بمنطقة "لا أحد".

الحُزن سيطر على الخنادق كما فعل الصمت في المنطقة المُحرمة، هذا يلعن الحرب التي أبعدته عن الوطن، عن حبيبته وبيت المزرعة الصغير الذي وُلد وترعرع فيه قبل أن تأمره نيران الحرب بحزم حقائبه للسفر، للسير في رحلة طويلة، بدايتها لم يطلب الانضمام إليها، وآخرها مجهول، وذاك يُمزق الألم قلبه بعدما رأى رفيقه يسقط على أرض المعركة بعدما أنهت رصاصة معاناته إلى الأبد.

في الخنادق جنود كرهوا الحرب، وكفروا بكُلّ أسباب القتال، لكن لم يكن من القتال بُد، الأوامر الصادرة إليهم كانت صارمة، ولا مجال للعودة للوطن إلا بانتصار مُعسكر وهزيمة الآخر.

ووسط الحُزن والعبوس المرسوم على وجوه الجنود البريطانيين "الحُلفاء" في خندقهم، خرج صوت أحدهم لينتشلهم من التفكير الذي عصف بعقولهم، صوت أجشّ لكن له وقع جيد على الأذان. بدأ الصوت هامساً بترانيم أعياد الميلاد، وأخذت أصوات الجنود تنضم إلى الصوت الأجش وتتعالى، أصواتهم كانت هي الملاذ من كآبة الحرب، صنع بعضهم من الأشجار البالية المُحيطة بهم "شجرة كريسماس"، زيّنوها بأزرار بدلهم العسكرية، دُخان سجائرهم صنع سحابة فوق الخندق وصدى أغانيهم، ملأ المكان من حولهم، صدى عال سُمع حتى في الخندق المُقابل، حيث الجنود الذين لطالما وصفهم قادتهم بالأعداء.

وعلى الجانب الآخر رُصدت حركة غريبة غير اعتيادية، تحرّكت متاريس خندق الألمان (المحور)، لتوفر مكاناً لأشجار الاحتفالات، وبدأت الترانيم تتعالى من المُعسكر الآخر، يُمكنك إدراك أنها أغاني أعياد الميلاد، حتى وإن لم تكن تفهم اللغة الألمانية، صوت أوبرالي بدأ تلك الترانيم، صوت قوي لا يُبالي بوقت الحرب، وكأنه يقف على مسرح أوبرا برلين.

كانت المرة الأولى التي يستمع فيها الجنود لأصواتٍ غير أصوات القذائف والطلقات النارية، أبواق الحرب توقفت وتداخلت أصوات المُتغنين من المُعسكرين، تشابكت كعمل فني يجمع بين اللُّغتين الإنجليزية والألمانية.

خرج أحد جنود الألمان من الخندق رافعاً يده متمتِماً: "اليوم، لن تمسكم نيراننا، ونيرانكم لن تمسّنا" فحذا جُندي إنجليزي حذوَه، وتقدَّمَ كُلٌّ منهما بحذر في اتجاه الآخر، من دون سلاح خفي، ومن دون نية للغدر، كُل خطوة خطاها أحدهما ناحية مُعسكر الآخر دهست أمرَ قائدٍ في طريقها، كسرت قواعدَ وُضعت في غُرفٍ مُغلقة، لكن أحداً منهما لم يهتم، مد أحدهما يده بالسلام، واستقبلها الآخر بحفاوة افتقدها منذ زمن بعيد.

تبادل باقي الجنود نظرات مفهومة للجميع، إنها ليلة عيد الميلاد، ليلة هُدنة واحدة لن تضر، لا شيء سيصنع ضرراً أكثر مما صنعته الحرب، خرج الجنود من خنادقهم واحداً تلو الآخر، أيادٍ تمتد بالسلام، وأحاديث تبدأ بينهم بكلماتٍ قليلة تعلَّمها بعضهم من لُغة الآخر في فترة الحرب السوداء.

وبعد دقائق من اللقاء المُرتجل الكاسر للقواعد ألقى أحدهم بكُرة قدم وسط الجمع، وكوّن كُل مُعسكر فريقاً لكُرة القدم، وبدأت مُباراة لا تقل روعة وارتجالاً عن لقائهم هذا، منطقة "لا أحد" تحولت لمنطقة الجميع، لملعب كُرة قدم صغير تُحيطه جماهير ببدلٍ عسكرية يهتفون ويشجعون لاعبين ببدلٍ عسكرية، مُباراة كُرة قدم أوقفت حرباً بين مُعظم دول العالم.

جُندي ألماني يُدخن سيجارة إنجليزية، يصفق مهللاً بمراوغة أحد اللاعبين، وجُندي إنجليزي يتذوق للمرة الأولى طعم التبغ الألماني يحتفل بهدف فريقه، مُباراة فقدت فيها الأهداف أهميتها لصالح هدفٍ أكبر، ليلة سلام وقف فيها الجنود دون خوف من قذيفة طائشة، أو من خطة يُنفذها المُعسكر الآخر تهدف إلى أن يُصبح خندقهم مقبرةً كُبرى تتعفن فيها جُثثهم حتى يُحقق السادة والساسة والقادة مكسباً عظيماً.

انتهت المُباراة بأعظم نتيجة في تاريخ مُباريات كُرة القدم، انتهت بتبادل هدايا أعياد الميلاد، حيث تقاسم الجنود الطعام والهدايا المرسلة إليهم من بلدانهم، وتبادلوا أزرار بزّاتهم العسكرية كتذكار يُخلد مباراتهم، وتجاهل أوامر صارمة بعدم التقرب من "مُعسكر الأعداء"، عاد كُل فريق إلى خندقه دون خوف من إعطاء ظهره للفريق الآخر، عادوا وهُم يُمنون النفس بليلة سلام أُخرى قبل أن تُرفض أمنيتهم الوحيدة في عيد الميلاد من قِبل الحرب في اليوم التالي.

كُرة القدم قادرة على صُنع المُعجزات حتى في أحلك الأوقات، قادرة على أن تقودك مُغمض العينين إلى الاختيار الأكثر إنسانية وسلاماً، حتى وإن أحاطتك مُجبراً أوامرُ بأن تتخلى عن طبيعتك الإنسانية لتحل القسوة مكانها، كُرة القدم هدية أُرسلت للعالم لتذكّره من آن لآخر أنه لا بد لهذا الجنون أن ينتهي، فالعالم يستحق أن يحيا أيامه كُلها في سلامٍ كسلام تلك الليلة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد هشام محرم
كاتب رياضي
كاتب رياضي
تحميل المزيد