بعد الاتفاقية الأخيرة التي وقّعت بين تركيا وليبيا في نوفمبر الماضي، والتي لها علاقة بترسيم الحدود البحرية بين الطرفين، أُثيرت العديد من الأسئلة حول ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، وعلاقة مصر بهذا الأمر، لاسيما بعد رفض مصر الرسمي للاتفاق التركي – الليبي.
سأحاول من خلال هذا المقال شرح مفهوم ترسيم الحدود البحرية بشكل مختصر بقدر الإمكان، ثم توضيح أبعاد الترسيم على مصر، وتحقيق مصالح مصر السياسية والاقتصادية.
ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة
البلاد التي لديها سواحل على البحار أو المحيطات يكون لديها مياه إقليمية (Territorial sea)، بمعنى آخر يكون لها مساحة من مياه البحر أمام سواحلها وتعتبر وكأنها أرض تابعة للدولة ولها حق السيادة عليها، وحدود المياه الإقليمية تعتبر كأنها حدود الدولة وللدولة الحق في التعامل مع أي اختراق لهذه الحدود.
مع مرور الوقت ظهرت اكتشافات للبترول والغاز في المياه العميقة، بمعنى آخر في أماكن تتخطى المياه الإقليمية وتبعد مئات الكيلومترات عن سواحل الدول، بالإضافة إلى الثروة السمكية الضخمة الموجودة في هذه المساحات من البحار والمحيطات. لم يكن هناك أي قوانين لضبط استغلال هذه الثروات وإثبات أحقية ملكيتها للدول حتى عام 1982 حيث تمت صياغة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
الاتفاقية وضعت ضوابط لتقسيم مساحات المياه في البحار والمحيطات التي تتخطى حدود المياه الإقليمية، وسميت هذه المناطق بالمناطق الاقتصادية الخالصة – Exclusive Economic Zones (EEZ) وتم تحديد هذه المناطق بـ 200 ميل طولي من سواحل الدول، وبالتالي أي دولة لها سواحل على البحار أو المحيطات تبدأ المنطقة الاقتصادية الخالصة لها من بعد نهاية المياه الإقليمية (بعد 12 ميلاً من الساحل) وتمتد بطول 188 ميلاً (المجموع الكلي 200 ميل من الساحل) ويكون للدولة في المناطق الخالصة حق استغلال الثروات وحق التنقيب والاستكشاف عن البترول والغاز، ولكن ليس لها الحق في التحكم في الملاحة البحرية في هذه المناطق (أي لا تعامل معاملة المياه الإقليمية)، وعليها أن توفر حرية وسلامة الملاحة الدولية.
المشكلات التي تواجه ترسيم الحدود البحرية
إذا كانت هناك مجموعة من الدول الساحلية المتقابلة، وكانت المسافة بين سواحل هذه الدول تتخطى 400 ميل، في هذه الحالة لا توجد أي مشاكل؛ حيث ستلتزم كل دولة بـ200 ميل من سواحلها دون أن يكون هناك تداخل مع الحدود البحرية للدول المتقابلة، أما إذا كانت المسافة بين السواحل لمجموعة من الدول الساحلية المتقابلة أقل من 400 ميل، فهذا يعني أن كل دولة إذا احتسبت 200 ميل من سواحلها فإنها ستتقاطع مع الدولة المقابلة، وهنا لابد أن يتوافق الطرفان على حساب الحدود البحرية بينهما على أساس خط المنتصف بينهما، أما إذا كانت هناك مجموعة من الدول الساحلية المتقابلة في مياه محدودة، كما هو الحال في شرق المتوسط؛ ففي هذه الحالة يتم تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة من خلال البلدين المتقابلين أصحاب أقصر مسافة بين سواحلهما، ويكون لهما الحق في امتلاك المناطق الاقتصادية الخالصة مناصفة بينهما، وهنا يمكن فهم حجم التعقيدات المتعلقة بعملية ترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط، لا سيما أن المنطقة تشهد نزاعات تاريخية بين تركيا واليونان وقبرص، بالإضافة إلى الصراع العربي الإسرائيلي، وتكفي الإشارة هنا إلى أن أغلب دول شرق المتوسط لم ترسم حدودها البحرية حتى الآن.
المشكلة في الحدود البحرية بين تركيا واليونان
عودة
بسيطة إلى التاريخ حتى نستطيع فهم جذور المشكلة بين البلدين، بعد هزيمة الخلافة
العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تم توزيع بعض الأراضي والجزر التي كانت
تمتلكها على بعض الدول الأوروبية، ومن ضمنها جزيرة كاستيلوريزو (Kastellorizo) التي أصبحت تحت
السيادة اليونانية، رغم أنها تبعد عن السواحل التركية بميل واحد تقريباً (انظر
صورة رقم 1).
عادت الجزيرة مرة أخرى للمشهد بعد ظهور منطقة شرق المتوسط كمنطقة واعدة باحتياطيات الغاز الطبيعي، وسعي كل دولة لإثبات أحقيتها في حدودها البحرية بما يسمح لها بعمليات التنقيب والاستكشاف والحفر.
المشكلة هنا في وضعية جزيرة كاستيلوريزو؛ حيث إنه طبقاً لاتفاقية قانون البحار 1982، فالجزيرة التي تقع أمام السواحل التركية مباشرة تدخل ضمن حسابات المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان، ولا يعتبر للسواحل التركية الممتدة على المتوسط حق في المناطق الخالصة (انظر صورة رقم 2).
في نفس الوقت تركيا كانت ضمن دول قليلة لم تنضم إلى اتفاقية قانون البحار (أمريكا أيضاً من ضمن الدول التي لم تنضم للاتفاقية)، والسبب في ذلك أن تركيا ترى أنه من غير المنطقي أن تحتسب المناطق الخالصة لليونان، وضمنها جزيرة كاستيلوريزو والتي تهدر بهذه الطريقة مساحات واسعة من حق تركيا (شكل رقم 3).
هناك نية جادة لإسرائيل وقبرص واليونان في إنشاء خط غاز (East Med) واهتمام من الاتحاد الأوروبي لإنجاز الخط الذي سينقل الغاز من إسرائيل وقبرص عبر خط يمتد في المياه العميقة في البحر المتوسط ويصل إلى اليونان ثم إلى أوروبا؛ ليصبح بديلاً عن الغاز الروسي الذي يسيطر على السوق الأوروبية (انظر صورة رقم 4).
وخلاصة الحديث عن هذا الخط أنه باختصار إذا تحول إلى أمر واقع فسيعني خسارة مصر لدورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، ومن هنا نستطيع أن نفهم أنه ليس من مصلحة مصر أبداً إنشاء وإنجاز هذا الخط، ويترتب على ذلك أن مصر على أقل تقدير يجب عليها ألا تقوم بتسهيل إنشاء الخط الذي سيتسبب بوضوح في القضاء على أحد أحلامها في المستقبل، أما في حالة إذا كان إنشاء الخط أمراً واقعاً لا مفر منه، فسيكون أقل الخسائر لمصر أن يمر في حدودها البحرية، ما سيوفر لها مكاسب اقتصادية من رسوم مرور الغاز في المياه المصرية، فضلاً عن المصلحة الاستراتيجية المتحققة من مرور الغاز القادم من إسرائيل إلى أوروبا عبر المياه المصرية، وبالتالي المصلحة المصرية باختصار فيما يتعلق بالخط هي عدم إنجازه، أو على أقل تقدير مرور جزء منه بالمياه المصرية.
نتحدث الآن عن الجزء من الخط الذي سيربط قبرص باليونان ويمر في مياه المتوسط، وبحسب الرؤية اليونانية لحدودها البحرية ولجزيرة كاستيلوريزو كما أوضحنا، فمن المفترض أن يمر الخط في شريط بحري مشترك بين قبرص واليونان، أما بحسب الرؤية التركية لحدودها البحرية ولجزيرة كاستيلوريزو، كما أوضحنا، سيقطع الشريط البحري الواصل من تركيا إلى ليبيا (بعد الاتفاق الذي تم منذ أيام بين تركيا وليبيا) ذلك الشريط البحري الواصل بين قبرص واليونان، وهذا يعني أن خط (East Med) حتى يصل إلى اليونان سيكون عليه أن يمر عبر المياه التركية أو عبر المياه المصرية، والأكثر ترجيحاً في هذه الحالة، وبسبب الخلافات التركية اليونانية التاريخية، فإن الخط سيمر في المياه المصرية ثم المياه اليونانية، وهنا يظهر بوضوح أن المصلحة المصرية تتوافق مع الرؤية التركية بغض النظر عن الخلاف السياسي بين الجانبين.
النظام المصري واستراتيجيته في منطقة شرق المتوسط
كما أوضحنا سابقاً فإن المصلحة المصرية تتوافق مع الرؤية التركية في تقسيم الحدود البحرية مع اليونان، ولكن وفي ظل العلاقات المتوترة بين مصر وتركيا، وفي نفس الوقت العلاقات والتحالفات بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان؛ فيبدو أن مصر ستتجه إلى ترسيم حدودها البحرية مع اليونان وفقاً للرؤية اليونانية؛ حيث إن هناك رغبة من الطرفين بالإسراع بتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بعد الاتفاق التركي الليبي، وهذا يعني خسارة مصر لمكاسب استراتيجية واقتصادية في سبيل التوافق مع الموقف اليوناني ومعارضة القرار التركي.
هذه السياسة هي نفسها التي اتبعها النظام المصري عندما وقّع على صفقة بمليارات الدولارات لاستيراد الغاز من إسرائيل. ولنا أن نتخيل حجم التهديدات التي تمس الأمن القومي المصري عندما يكون جزء ليس بالقليل من واردات الطاقة لمصر تعتمد فيه بالأساس على إسرائيل، فضلاً عن الشكوك المنطقية حول الجدوى الاقتصادية للصفقة.
النزاع بين قبرص وإسرائيل
وسط الأزمات الموجودة في شرق المتوسط، بدأ نزاع جديد في الظهور وإن توارى وراء زخم وضجة الحديث عن الاتفاقية التركية الليبية وما أثارته وتثيره من تبعات في المنطقة. هذه المرة النزاع بين إسرائيل وقبرص الحليفين الأكثر تعاوناً وتنسيقاً فيما يتعلق بغاز شرق المتوسط.
ما جوهر الخلاف بين إسرائيل وقبرص؟
في عام 2010 قامت إسرائيل وقبرص بترسيم الحدود البحرية بينهما، وفي عام 2012 تم اكتشاف حقل أفروديت في قبرص الذي يمتد جزء صغير منه داخل إسرائيل، وقامت إسرائيل بتطوير هذا الجزء تحت اسم حقل يشاي (Yishai). بدأ الخلاف منذ عدة سنوات عندما ادعت إسرائيل أن حقل يشاي يفترض أن يكون أكبر من حجمه الحالي طبقاً للترسيم البحري بين البلدين. بمعنى أن إسرائيل تدعي أن لها حقاً في جزء من حقل أفروديت القبرصي وتطالب بضمه إلى حقل يشاي. تدعي إسرائيل أن حجم حقل يشاي من المفترض أن يكون 3 أضعاف حجمه الحالي بعد استرداد حقوقها من قبرص.
الجديد أن إسرائيل ولأول مرة قامت باتخاذ خطوات جادة في ادعائها بأحقيتها في جزء من حقل أفروديت، وأرسلت مذكرة للشركات الثلاث أصحاب حق الامتياز في حقل أفروديت (شل ونوبل إنيرجي وديليك) تخبرها أنه ليس من حقها تطوير وتنمية الحقل إلا بعد الوصول إلى تفاهم واتفاق مع إسرائيل. أي أنها تخبرها بمنع التنمية في حقل أفروديت. وزير الطاقة القبرصي ردَّ على الموقف الإسرائيلي بتأكيده أن الاتفاق والتفاهم بين الجانبين غير مرتبط بتنمية حقل أفروديت، وأن تنمية الحقل ستستمر، وحتى هذه اللحظة لم يعلن عن أي بوادر لتسوية هذا الخلاف، غير تأكيد كل طرف موقفه.
وبطبيعة الحال، فإن هذا النوع من الخلافات يحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى تفاهم وتسوية. وفي الوضع الحالي المتوتر في المنطقة من الصعب الوصول لحلول سريعة أو مرضية للطرفين، وبالتالي ينضم النزاع بين قبرص وإسرائيل إلى سلسلة النزاعات الموجودة في المنطقة ويزيد من حدة التوتر في المنطقة.
ما هو الضرر الذي سيلحق بمصر نتيجة هذا النزاع؟
وقَّعت مصر مع قبرص في عام 2018 عقداً لإنشاء خط ينقل الغاز الطبيعي من حقل أفروديت القبرصي إلى محطات الإسالة بمصر وإعادة تصديره، بتكلفة مليار دولار.
هذه الصفقة ستحقق مكاسب اقتصادية لمصر من ناحية رسوم تسييل الغاز في المحطات المصرية وتصديره من مصر، ومكاسب استراتيجية من ناحية تحكم مصر في الغاز القبرصي المصدّر للأسواق الأوروبية.
وكانت قبرص قد أعطت الشركات الثلاث المشرفة على حقل أفروديت الضوء الأخضر لبدء ضخ الغاز إلى محطات التسييل المصرية وتصديره للخارج.
لكن قبل الشروع في التنفيذ صعّدت إسرائيل من خلافها مع قبرص، وأعلنت رفضها لأي أعمال تنمية في حقل أفروديت حتى يتم استرداد حقها من الحقل، كما تدّعي.
بهذا الشكل ومن خلال هذا التصعيد الإسرائيلي ستكون النتيجة المباشرة هي تعطل أو إيقاف أعمال التنمية في حقل افروديت، وهو أمر متوقع جداً، خاصة أن شركتين من الشركات الثلاث المالكة تعتبران إسرائيليتين (شركة ديليك إسرائيلية وشركة نوبل إنيرجي الأمريكية لكن معظم استثماراتها تقع في إسرائيل)، وبالتالي ستكون محصلة هذا النزاع توقف صفقة الغاز بين مصر وقبرص، وعدم اكتمال إنشاء خط الغاز بين مصر وقبرص، وفقدان مصر لمكاسب اقتصادية واستراتيجية.
واقع الموقف المصري من الادعاء الإسرائيلي؟
الموقف الإسرائيلي الأخير وتصعيدها من الخلاف مع قبرص قبل البدء في إجراءات تصدير الغاز القبرصي لمحطات التسييل المصرية لا يمكن فهمه إلا في إطار الاعتداء المباشر والواضح على المصالح المصرية استراتيجياً واقتصادياً.
بمعنى آخر وللتبسيط، فإننا أمام "بلطجة إسرائيلية" على أكبر حليفين لها في شرق المتوسط مصر وقبرص.
الموقف المصري من هذا النزاع والاعتداء الإسرائيلي هو الصمت والتصعيد المستمر ضد تركيا بسبب ترسيم حدودها مع ليبيا، التي هي في الواقع في صالح مصر من وجهتين: تحافظ على حقوق مصر من المياة الاقتصادية، وتمنع إنشاء خط (East Med) الذي يقضي على تموضع مصر كمنصة إقليمية لتصدير الغاز، كما هو موضح أعلاه.
مرة أخرى، يؤكد النظام المصري أنه لا يعتمد في سياسته لإدارة ملف شرق المتوسط على رؤية تحقق الأمن القومي والمصالح الاقتصادية بقدر ما يعتمد على توافقات وإرضاء حلفائه وداعميه الدوليين والإقليميين، وفي مقدمتهم إسرائيل، والمحصلة هي عدم استقلالية القرار السياسي، والتبعية التي تؤدي في النهاية إلى اتخاذ قرارات بعيدة عن مصالح مصر في أكثر من موقف، أو الصمت والسكوت في مواقف تُهدر فيها حقوق ومقدرات مصر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.