القمة والخوف من الأمل

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/24 الساعة 16:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/12/25 الساعة 09:37 بتوقيت غرينتش

أصبحنا نخاف من الأمل لكثرة ما نخاف عليه، ولصعوبة ما لقينا، نحن وآمالنا، في السنوات العشر الأخيرة. إنّ القمة التي دعا إليها رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، وانعقدت في كوالالمبور خلال الأيام الأخيرة من عام 2019 وحضرتها تركيا وإيران وقطر، كل منها ممثلة برأس الدولة، ربما ترمم علاقتنا بالأمل ولو قليلاً، بعد عقد كامل من ارتباكها. 

فإن كنت تجرؤ على معاودة الأمل فاقرأ من كلمات القمة ووثائقها ما شئت، فكأنها تجسّدت من أمانيك: تقارُب تركي إيراني يبشر باحتواء الشر المتفاقم من سنوات في العراق والشام،  اقتراح ماليزي بالاستقلال المالي لتلك الدول الأربع ومن ينضم إليها عن الدولار الأمريكي وتغطية معاملاتها البينية، أو جزء منها، بالذهب أو بدينار موحد بينها، تعاهد على ألا تلتزم هذه الدول، ومن ينضم إليها لاحقاً، بأي حصار أو عقوبات تُفرض ظلماً على أيٍّ منها، وإقرار بأن الحصار والعقوبات المفروضة الآن على قطر وإيران مثلاً غير شرعية ومخالفة للقانون الدولي، وزيادة على هذا وذاك اتفاق على دعم المقاومة الفلسطينية في لحظة من أحلك لحظات القضية.

وهذا المؤتمر يبشر بالخير تحديداً لأنه يختلف عن منظمة التعاون الإسلامي التي أسست منذ خمسين سنة.  

منظمة التعاون الإسلامي التي تأسست عام 1969 كانت أقطابها المملكةَ العربية السعودية المنخرطة في الجانب الأمريكي من الحرب الباردة، سواء في العالم أو في الإقليم، ومصر التي أوهنتها النكسة قبل تأسيس المنظمة بسنتين، وتركيا المشيحة بوجهها وقتئذ عن جنوبها وشرقها والمتجهة تماماً نحو شمالها وغربها، وإيران الشاه محمد رضا بهلوي حليف إسرائيل والولايات المتحدة وشرطيهما الموَلّى على بلده وعلى الخليج (لم يكن مذهبه مشكلة عند الحكام العرب المتحالفين مع واشنطن وقتها، فهم لم يتذكروا مذهب الإيرانيين إلا بعد الثورة وقطعها علاقات إيران مع إسرائيل وأزمة الرهائن)، وباكستان الجنرال يحيى خان المنخرط في حرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف إن لم يكن الملايين، والمنتهية  بانفصال بنغلاديش عن باكستان، بعد تأسيس المنظمة بسنتين.

 أما هذه القمة المنعقدة في كوالالمبور، فأقطابها تركيا، بعد أن أصبح اقتصادها واحداً من أغنى عشرين اقتصاداً على وجه الأرض، وبعد أن تغيّر توجهها الاستراتيجي تغيراً جذرياً نحو شرقها وجنوبها، ومدت جسورها نحو عمقها الثقافي والتاريخي في الشرق الأوسط والبلقان ووسط آسيا، وهي اليوم ذات نفوذ ممتد من الصومال إلى البوسنة، ومن ليبيا إلى قرغيزستان على حدود الصين. ثم من أقطاب هذه القمة إيران، ونظامها هو الوحيد بين أنظمة المشرق الذي أتت به ثورة شعبية، وقد كانت أكثر ثورات المشرق جذرية في القرن العشرين وأشدها عداء معلناً لإسرائيل والهيمنة الأمريكية. وقد نجت إيران من حرب شنها العراق عليها لثمانية أعوام، وحصار أمريكي لأربعين سنة، وبالرغم من ذلك تمدد نفوذها الاستراتيجي في العراق وسوريا ولبنان وغزة، بحيث لا يضاهيها أحد في هذه البلدان قوة ونفوذاً على الأرض. وسلاح حلفاء إيران من اللبنانيين والفلسطينيين مشرع على إسرائيل من شمالها وجنوبها، ويهدد عمق العدو من العقبة حتى الناقورة.

 صحيح أن الحرب السورية جرى فيها من كوارث الاستبداد ما لا يطيقه بشر ولا حجر، وما لا يمكن لأحد أن يقبله أو يسكت عنه، ناهيك عن تبريره بأي شكل من الأشكال، وما سيبقى جرحاً صعب الاندمال بين الناس والناس، لا بين الناس وحكامهم فحسب. لكن لا يجادل أي من أطراف تلك الحرب اليوم في أن أمرها خرج عن أيدي السوريين كلهم حكومة ومعارضة (أو معارضات)، وأن التعاون الإقليمي، لا الحسم العسكري، هو السبيل لإنهائها ولإحداث أي تغيير إيجابي في البلاد. 

 ثم ماليزيا، البلد الذي يحتاجه كل عمالقة إقليمه، والذي صنع معجزة اقتصادية وديمقراطية وسياسية بلا نظام ريعي. ثم قطر، التي نجت من حصار كادت الجغرافيا تجعل النجاة منه مستحيلة، وهي بؤرة الإعلام السياسي العربي، وعماد ذلك لا يزال قناة الجزيرة بفروعها المختلفة، وهي أشد وسائل الإعلام تأثيراً في الرأي العام، لما يقرب من نصف مليار إنسان عربي بين المحيط والخليج. وقد بيَّنت أحداث عام 2011، أن الرأي العام هذا قد يغير التاريخ، وإن كانت الثورة المضادة انتصرت في مصر، فإن الدولة القمعية هناك لا تزال خائفة مما جرى لها في يناير/كانون الثاني من ذلك العام، وخوفها ذاك يملي عليها سلوكها، ولا بد للخائف من زلة عاجلاً أو آجلاً، ولم تزل أهمية الإعلام الحر على حالها إن لم تزدد.

أقول هذا اجتماع لدول لديها من عناصر القوة الكفاية، ولديها في تاريخها الراهن ما يُثبت كفاءة مخططيها الاستراتيجيين في إدارة هذه الموارد. فهي، مجتمعةً، تملك من عناصر القوة المال، والدبلوماسية، والإعلام، والقدرة على الحرب بصيغتيها: التقليدية القائمة على الجيوش النظامية، والجديدة القائمة على الجماعات المسلحة غير المركزية.

ثم إن ثلاثاً من هذه الدول الأربع معرضة لضغوط متشابهة، وإن كانت متفاوتة الدرجات، أكثرها من الولايات المتحدة الأمريكية، وهي ضغوط تتراوح بين العداوة المعلنة، والغدر الصريح، والغدر المحتمل، فإيران متعرضة لعقوبات خانقة، والوجود العسكري الأمريكي شرقها في أفغانستان، وغربها في الخليج، ولم تف لها الولايات المتحدة الأمريكية بالتزاماتها في الاتفاق النووي. وقطر متعرضة لحصار من جاراتها الأقرب، ولم يكن موقف الإدارة الأمريكية يدعو للثقة حين بدأ ذلك الحصار وأوشك البلد أن يتعرض للغزو، حيث انقسمت الإدارة وقتها بين رئيس لا يبالي بكارثة كهذه، ووزير دفاع عارضها فأقيل لاحقاً.

أما تركيا فتعرّض رئيسها المنتخب إلى محاولة انقلاب مصدرها الولايات المتحدة، ولم يكن لإعلامها من شُغل إلا لومه على نجاته منها وانتصاره عليها. صحيح أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة، لكن سلوك واشنطن مع أنقرة لا يشبه سلوك الحلفاء. وهو أمر متوقع، فإن الولايات المتحدة قد تقبل أن يكون لها حليف قوي وديمقراطي معاً، كبريطانيا مثلاً، إذا كانت واثقة من تطابُق العاطفة الشعبية لدى هذا الحليف مع مصالحها. أما في حالة بلد كتركيا، فإن الولايات المتحدة لا تقبل به حليفاً قوياً إلا إذا ضمنت أن نظامه استبدادي بما يكفي لكبتِ العاطفة الشعبية المعادية للصهيونية وللهيمنة الأمريكية في المنطقة.

والنظام التركي اليوم، مهما انتقده مَن انتقده محقاً أو متجنّياً، أكثر ديمقراطية منه في أي لحظة من لحظات التاريخ التركي في السنوات المئة الماضية، حيث كان الجيش يهيمن على الحياة السياسية تماماً، وينقلب على المنتخبين متى حلا له، ولذلك تحديداً هو أصدق تمثيلاً للعاطفة الشعبية التركية المعادية للصهيونية. وعليه فإن مزيج القوة والحرية معاً في تركيا، يقلقان الولايات المتحدة، لأنهما يعنيان أن ذلك الحليف قد يصبح أكثر استقلالاً عن السياسة الأمريكية من الحد المقبول في واشنطن.

وهذا يحيلنا إلى موقف الدول الأربع الملتقية في القمة من الحق الفلسطيني. فليس بين هذه الدول صديق أو حليف لإسرائيل، وكلها تقف على طيف متفاوت الدرجات من العداء مع تل أبيب.  فعن العداوة بين إسرائيل وإيران فحدّث ولا حرج، ودعم إيران للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية معروف، وهي حتى الآن، من الناحية العسكرية على الأقل، عمقهما الاستراتيجي الوحيد، ولا بقاء للفلسطينيين بدونه، فلو انقطع ذلك الدعم العسكري لَتعرض الفلسطينيون (مقاومهم ومسالمهم على حد سواء) لنكبة أخرى أشد من نكبتهم الأولى. وتركيا لها في دعم المقاومة الفلسطينية في غزة شهداء، وسفينة المافي مرمرة تشهد. ومواقف مهاتير محمد من الحقوق الفلسطينية علنية، وأفضل من مواقف كثير من القادة العرب. وقطر دعمت جنوب لبنان في 2000 و2006، ودعمت غزة في 2008 و2012، و2014 ودعمت الثورات العربية جميعاً، وعلى رأسها الثورة المصرية التي أطاحت بكنز إسرائيل الاستراتيجي حسني مبارك في 2011. وكان إيصال الحقيقة للناس عبر الجزيرة وغيرها بنفس قيمة بناء البيوت والمستشفيات، فقد أدى الأمران إلى إنقاذ حياة الكثير من الناس وتقصير عمر الحملات العسكرية الإسرائيلية ونظم القمع العربية القائمة على حد سواء.

وأخيراً، فإن هذه الدول سبق بينها التعاون في ملفات شديدة الحساسية لأمنها القومي، فتركيا وإيران تعاونتا في الملف الكردي، وبينهما تعاون اقتصادي غير منقطع حتى مع دعمهما أطرافاً متضادة في الشام، وكل من تركيا وإيران قاومتا الحصار الذي فرضته المملكة العربية السعودية على قطر. ثم حرية في حركة الأفراد والبضائع بين الدول الأربع، فيتنقل مواطنو كل من قطر وتركيا وإيران وماليزيا بين أقطارها بدون تأشيرة أو بتأشيرة إلكترونية.

فإن كان الاقتصاد والنفوذ والقوة العسكرية النظامية التركية مضافاً إلى الخطة الماليزية لاعتماد المقايضة والتعامل بالذهب بين هذه الدول بما يحصنها من الهيمنة الأمريكية على مقدراتها الاقتصادية، مضافةً إلى القوة العسكرية غير التقليدية والقائمة على حروب الجماعات الفدائية التي بينت إيران كفاءة كبرى في إدارتها حتى طوقت إسرائيل من جنوب لبنان ومن غزة، وطوقت السعودية من العراق ومن اليمن، مضافةً إليها القوة الاقتصادية والإعلامية القطرية المتفاعلة تماماً مع الرأي العام لنصف مليار عربي، مضافاً إلى ذلك كله دوافع حقيقية لدى هذه الدول للتكتل دفاعاً عن النفس وتأميناً للمستقبل، فإن احتمالات النجاح تبدو قائمة، وربما راجحة هذه المرة، لكنني كما قلت أخاف من الأمل.

إن هذا التكتل لا يمثلني فحسب، بل يمثل ما أتمنى، وأدعو كل ذي طاقة وكفاءة أن يسعى لإنجاحه، كما أضم صوتي إلى من يدعون حكومات الدول الأربع أن تؤسس آليات وأطراً تتيح لكل ذي طاقة وكفاءة أن يسعى في سبيل هذه الأهداف. لعل الأمل هذه المرة يكون خيراً مما سبق.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تميم البرغوثي
شاعر وأستاذ علوم سياسية ودبلوماسي سابق بالأمم المتحدة
شاعر وأستاذ علوم سياسية ودبلوماسي سابق بالأمم المتحدة
تحميل المزيد