لماذا العياط؟
عاط عياطاً، والعياط هو الصياح والبكاء الشديد، و "العيطة" في المغرب فن غنائي مغربي قديم ظهر منذ عصور سلاطين المغرب، وانتشر بقوة في أثناء الاحتلال الفرنسي، الذي أراد استيعاب الفن نفسه وتوظيفه لمصلحته بقيادة "القياد المغاربة التابعين للمخزن"؛ لكونه يشكل نوعاً من المقاومة ضد المحتل، ولأنه لون غنائي يعتمد على أشعار تحمل معاني مشفرة لا يفهمها إلا أصحاب الأرض، كنوع من شيفرة سرية بين المقاومين من الرجال ضد العدو.
كانت جُل أشعار العيطة ممزوجة بعبارات الندب والبكاء والصياح والعياط، لكن اليوم رصدنا صرخة وعيطة فريدة غريبة شكلاً وجغرافيا ومصدراً، الأمر يتعلق اليوم بما يسمى "صرخة البرتغال"، أداها فريق عياط وبكاء اسمه "صفقة القرن" في شخص بومبيو وزير الخارجية الأمريكي ونتنياهو .
المشترك في الفرقة الأمريكية والصهيونية بالبرتغال
وأظن أن الاجتماع الأمريكي-الصهيوني في البرتغال -دولة نالت هزائم جمَّة من المغاربة- جمع الشلة الأمريكية والصهيونية؛ من أجل التمهيد للتطبيع واختراقٍ عربيٍّ آخر من بوابة المغرب، فكانت الفرقة الصهيو-أمريكية تجتمع في وجهات ونقط مشتركة:
– الاشتراك في المصدر: فمن التوجه والمشرب نفسهما يشتركان، فالأول وزير الخارجية الأمريكي الذي يمثل المدرسة الإنجيلية المتطرفة المتأثرة بالروح الصهيونية، والثاني نتنياهو يمثل مشروع تيودر هرتزل الصهيوني الذي تخرج من حفرة الجيتو والأطم والحصون المحصنة.
– الاشتراك في السبب: فضلاً عن المصدر الذي جمعهما بالبرتغال للصراخ والعياط بلحن وفن واحد؛ من أجل التطبيع والتمدد في المغرب وشمال إفريقيا، فإن الفرقة الغنائية الأمريكية والصهيونية اجتمعت لسبب واحد؛ لإعادة "ديسك" وأغنية قديمة، وهي أن "المقاومة الفلسطينية إرهاب، واليهود في ظلم ونحتاج تطبيعاً واعترافات"، يرددون هذا الفلكلور العياطي كلما صدحت حناجر المغني الرجاوي المغربي الأصيل بشعار "حنظلة ثورة حتى النصر" وبأغنية "في بلاد ظلموني"، التي تحولت إلى كلمات تُغنى بالفلسطينية وتصدع بها المرابطات في المسجد الأقصى.
– الاشتراك في الجرم الجغرافي: الفنان نتنياهو جاء من أرض غير أرضه، هو مجرم يمثل كيانُه الروح الصهيونية التي تحتل الأرض المقدسة، فجاء إلى البرتغال مستعجلاً بعدما تأزم أيما تأزُّم حيال قوة المقاومة الفلسطينية وصمود مسيرات العودة وخيبة النخبة الصهيونية، التي فشلت أمام نخبة مقاومة تعيش في الأنفاق يسمونهم "عباداً لنا".
أما الذي يتقن الصرخة والعياط ثانياً، فهو الفنان بومبيو، الأمريكي الذي يمثل أحد أطراف الدولة اليهودية الكبرى التي يحلمون بها، ويمثل دولة اسمها أمريكا، قامت على جثث الهنود الحمر.
هي ورقة أمريكية تتحرك وتنتقل إلى تصريحات واعترافات بالكيان الصهيوني كلما تقزم حجم الصهيونية بسبب ضربة من المقاومة، أو تحرُّك الشعوب نصرةً لغزة والقضية الفلسطينية.
– الاشتراك في الجغرافيا نفسها: فريق العياط والصياح الصهيوني-الأمريكي يجتمع في منصةٍ اسمها البرتغال، كان لها تاريخٌ دامٍ في اختراق ثغور المغاربة لاحتلال البلاد والعباد، لكن فريق العياط اليوم -خصوصاً الصهيوني منه- يرغب في اختراق منظَّم ليِّن، دون سلاح أو قوة؛ بل اختراق واعتراف وتخابر منظَّم ضد المغاربة والشعب الفلسطيني.
لكن الفريق الصهيوني والأمريكي وقع في زلَّة ومزلق عظيم، حين غابت عنه زيارة المتاحف البرتغالية والمخطوطات البرتغالية التي تزخر بمشاهد وصفحات عن هزائم القوة البرتغالية العظمى القديمة على يد أشاوس علماء ورجال المغرب وشبابه الملتزم.
لعل هذه الزيارة تطوي على الفريق الصهيوني والأمريكي حقيقة معرفة هوية الشعب المغربي المسلم الذي أرسل إلى صلاح الدين الأيوبي أعظم أسطول يضم أزيد من 128 قطعة بحرية محمَّلة بكل أنواع ومشارب الشعب المغربي؛ لتحرير بيت المقدس بمعركة حطين في عام 1187م ضد التكالب العالمي الصليبي.
هو الجهل إذن بالتاريخ المغاربي وحقيقة الشعب المغربي في الحاضر والتي لم تعسفه سواحل البحار ثغوراً، بل أضحت الملاعب الكروية ثغوراً ورباطات لنصرة الشعب الفلسطيني، وإرسال رسالات مشفرة عن نصرة المقاومة شبيهة برموز العيطة المغربية في أيامها الأولى المقاومة قبل أن تضعف وتُزيَّف.
الهزائم دافعة إلى التطبيع..
حين ترصدون أي تحرك صهيوني أو أمريكي أو حتى عربي مطبِّع بشكل اصطفافي، فاعلموا أن هناك شيئاً أوجع المنظومة الاستكبارية العالمية، وهناك شيء من الانتصارات في الأمة والمقاومة الفلسطينية يراه شيطان الكيان الصهيوني وقبيله الأمريكي من حيث لا نرى ذلك..
لكن إذا اختار كل مطبِّعٍ صرخته كشكل للهزيمة ورد فعل للتطبيع وربط العلاقات، فصرخة الأمة والمقاومة اليوم انتهت من الغثائية البكائية إلى الأفعال البنائية؛ بل انتقلت الأمة من شكل العياط ورد الفعل إلى شكل القوة وصناعة الفعل والفرح بوعد الله الذي بدأت تظهر معالمه ومظاهره، وأهمها اهتراء العلو الصهيوني وضعفه وتأزُّمه أمام مقومات الأمة الإسلامية التي نكَّلت بالصليبية سابقاً، والصهيونية حاضراً، وأسقطت أنظمة فاسدة بفعل قوة الشعوب العربية وقوة الله..
إذا كان كل مفسد اختار صرخته العياطية الاعتيادية بعبارة "أيتها الأنظمة الديكتاتورية، افتحي بابك للتطبيع لاختراق الشعوب وإضعافها وتصفية القضية الفلسطينية"، فإن صراخنا وصوتنا المختار دوماً هو قول الله تعالى:
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً).
دلالات لقاء نتنياهو وبومبيو
نتنياهو، لقد أخطأت المجيء إلى منصة البرتغال بشكل استعجالي لإقناع بومبيو.
لكن لقاء بومبيو مع نتنياهو في البرتغال له مجموعة من الدلالات:
– أولاً: نتنياهو جمع في تصريحه بين ملفين: ملف إيران وملف المغرب، ونال الملفان الوقت والاهتمام نفسهما في الحديث، وهو ما يؤكد أن دعوة نتنياهو إلى فتح مجال كبير في التطبيع وعقد اتفاقيات اقتصادية معلنة بين المغرب والكيان الصهيوني دعوة غير عبثية؛ بل هو ملف على قدر الحجم الإيراني، تحدَّث عن خيوطه نتنياهو، ودعا فيه أمريكا إلى طرحه بجدِّية على المغرب في زيارة بومبيو..
– ثانياً: نتنياهو يستغل العلاقات الأمريكية-المغربية القوية لتمرير رسالته التطبيعية، فهو يفقه أن المغرب كان بوابة استقبال لكل من كوشنر مهندس "صفقة القرن"، وإيفانكا كذلك، ويعلم نتنياهو أن أمريكا يمكنها إنجاز خطوة مهمة لإقناع المغرب بالقفز إلى مرحلة جديدة من التطبيع والعلاقات المغربية-الإسرائيلية اقتداء بخطوات السعودية وعُمان والبحرين..
إذن في همسة نتنياهو للجانب الأمريكي لإقناع المغرب شكل صهيوني قد يظهر متقدماً، لكن حقيقة المضمون تدل على أن الكيان الصهيوني يعيش فراغاً وأزمة اعتراف من الشعوب العربية والإسلامية، ويعجز عن إقناع الأمة بأن "إسرائيل" ليست احتلالاً ولا كياناً؛ بل إن توظيف نتنياهو لبومبيو لإقناع المغرب، دلالة على عجزه عن الحضور بنفسه إلى المغرب أو وزيره للحديث أمام الشعب وأرضه؛ لعلمه أن الشعب المغربي ينتفض ضد ذلك؛ بل عقب أي حضور صهيوني يعتبره المغاربة حضور مجرمين لا حضور مسؤولين.
– ثالثاً: على مستوى السياق الداخلي الصهيوني، فإن خطوة نتنياهو مع بومبيو نحو العمل على تحقيق التطبيع المفتوح المعلن مع المغرب، خطوة ضعف داخلي ذاتي، تنمُّ عن تنقيب نتنياهو عن مربعات انتصار، وفتوحات تهوية، وأوراق رابحة، تعزز طريقه في تشكيل الحكومة القادمة الصهيونية على حساب فتح بوابة اقتصادية جديدة تطبيعية مع المغرب تشبه إنجاز وصول نتنياهو إلى عتبات قصر عُمان.
هي إذن حالة ضعف في الميزان الصهيوني، ليبحث من بوابة أمريكا؛ للتمهيد للتطبيع ونيل جوائز رابحة تعيد النفَس إلى مشروع نتنياهو.
– رابعاً: على مستوى السياق المحلي الفلسطيني، فإن دعوة نتنياهو إلى هذا الحجم من التعامل مع المغرب، تعتبر بحثاً عن انتصار؛ بل هي رد فعل عن خيبة أمل، وخيبة النخبة وهزيمة وسط الاحتلال، خصوصاً في جهازه الحساس وهو الاستخباراتي والعسكري الذي مُني بفشلين في أسبوعين:
– فشل أمام المقاومة بعد استشهاد بهاء الدين.
– وفشل أمام إعلام المقاومة الذي أخرج ورقة خطيرة في قصة "أربعين دقيقة وانتصار معركة حد السيف".
هذا الفشل وهذه الهزائم كنت أرصد وأتوقع بعدها تحركاً صهيونياً للبحث عن مَخرج من هذه الهزائم المتكررة، وبدائل عساها تعيد حجم الصهيونية التي تتقزم كلما انتصرت المقاومة وغزة.
هو رد فعل استراتيجي توظف فيه الصهيونية خطة الاختراق وعقيدة تمدُّد الأطراف والعلاقات، لإبراز الصهيونية كقوة عالمية لا تُهزم، لكن الهزيمة هي مصير كل علوٍّ وتجبُّر في الأرض فصار دنساً لا بد من زواله وإزالته.
خلاصة القول: سيكون الشعب المغربي وحده القادر على الرفض الأول لكل زيارة صهيونية رسمية، أما عن الاختراق السري وغير العلني فإن مؤسسات النظام المغربي قادرة على احتضان هذا الجرم، لكنه تطبيع وراء الستار يدل على ضعف ووهن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.