تشهد العاصمة الماليزية "كوالالمبور" هذا الشهر ديسمبر/كانون الأول، قمة إسلاميةً عنوانها "دور التنمية في تحقيق السيادة الوطنية". وبحسب وكالة الأنباء الماليزية جاءت فكرة عقد القمة الإسلامية، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، في أثناء لقاء رئيس الوزراء مهاتير محمد مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزراء باكستان عمران خان.
أشار الدكتور مهاتير: "لماذا توجد هذه المشاكل؟ لا بد من وجود سبب لها، ولا يمكن أن نحدد السبب إلا بجلوس المفكرين والعلماء والقادة، للنقاش وتسجيل الملاحظات والآراء. وأردف: "ربما يمكننا اتخاذ هذه الخطوة الأولى، كي نساعد المسلمين على استعادة أمجادهم الماضية، أو على الأقل نساعدهم على تجنُّب الإذلال والاضطهاد الذي نراه حول العالم هذه الأيام".
وسيشارك في القمة 450 شخصية إسلامية بين قادة سياسيين ومفكرين وعلماء دين، للنقاش وإعطاء آرائهم وأفكارهم حول أنسب الحلول لمواجهة مشكلات المسلمين حول العالم. وتم توجيه السؤال إلى الدكتور مهاتير محمد، على أساس وجود مؤسسات قائمة بالفعل مثل منظمة التعاون الإسلامي وحركة عدم الانحياز ومؤسسة أمم جنوب شرقي آسيا (آسيان)، وكان ردُّه: ".. أنه يؤمن بالبدايات الصغيرة، وأن كثيراً من الدول الإسلامية لديها مشكلات تشغلها وتكرّس وقتها للتعامل معها، ولكن هذه الدول (المقترحة) على ما أعتقد، يمكنها أن توفر الوقت اللازم للتعامل مع هذه القضايا المهمة؛ وفي ظل المشكلات التي يعانيها المسلمون حول العالم، تأتي الحاجة الملحَّة لإيجاد آلية فعالة لتنظيم التواصل بين قادة الدول الإسلامية، لتنسيق المواقف في القضايا التي تهم المسلمين بشكل عام، بهدف تشكيل موقف موحد يحافظ على حقوق المسلمين، كما أن هناك حاجة ملحَّة لإشراك المفكرين والعلماء في آلية فعالة تُمكِّنهم من المشاركة بعلمهم وأفكارهم في وضع حلول يمكن تحقيقها على أرض الواقع".
بحثاً عن الأمة
في سياق هذا الإدراك الواعي والناضج الذي تجاوز الاختلاف بتشخيص أزمة الأمة إلى البحث عن الاستجابات الفاعلة وضروراتها؛ تحتاج الأمة –في ظل الظروف القاسية التي تمر بها، والتحديات التي تحيط بها– إلى مشاريع حضارية راقية تحفظ لها كيانها السياسي ووجودها الاقتصادي والعسكري، وثروتها الفكرية والثقافية، وتضمن لها جيلاً واعياً راشداً، جامعاً بين الوعي والسعي.
إن الأمر الذي لا يجوز الاختلاف عليه أن المشروع الحضاري للأمة الواحدة المؤكد على معنى جامعيتها يقوم في الحقيقة على الاستناد الى أصولها، وقدرتها على ترجمة قيمها ومبادئها الى استراتيجيات وسياسات فعلية تصب في مكانتها وفاعليتها، واستثمار كل إمكانات هذه الأمة ومكنوناتها، فتحولها إلى مكنة ومكانة وتمكين.
وفى إطار ذلك نستند إلى فكرة محورية ترقى لأن تكون في مرتبة المسلمات، مفادها أن "الأمة" حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي "الأمة – الوسط" التي تقوم بدورها في عملية الشهود الحضاري، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي "الشرق الأوسط" أو "المسألة الشرقية" أو "الشرق-الأوسط-الكبير" أمة مشهودة لا شاهدة، تعد موضوعاً لا طرفاً على مستوى المكانة الحضارية. فيشير ذلك إلى معانٍ جغرافية و "مكان" مُصمَتٍ يراه الخارجُ (الغرب) كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعلين أو يحوي فكرة جامعة، إنه –بهذا- مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وتصبح منطقتنا مجالاً للهندسة في إطار تتحكم فيه ما يمكن أن نسميه "هندسة الإذعان".
التحرر من الاستعمار الشيطاني
ويرتبط ذلك أيضاً بالعواقب السلبية للدولة القومية في عالم المسلمين من قسمة جديدة يجب فهمها واعتبارها وتأثيرات بعضها السلبي على حالة الأمة ومشروعها؛ ذلك أن التعدد الذي يشير إلى النشأة الخاصة للدول القومية في عالم المسلمين والعالم الثالث، والذي حكمته موازين حقبة ما بعد الاستعمار الاستيطاني والدخول في مرحلة جديدة من علاقات الدول القومية التابعة.
هذا التعدد الذي صاحب الدولة القومية في عالم المسلمين والعالم الثالث، صاحبه تعدد في الرؤى ونماذج التنمية، كما غُلف بسياقات أيديولوجية، خاصة العالمية منها (الرأسمالية والاشتراكية)، ومكن لها حالة سائدة حكمت السياسات والعلاقات سُميت بالحرب الباردة. وأفرز هذا التعدد عدداً من القضايا التي أصبحت موضع مساجلات فكرية أضافت إلى التجزؤ الموجود تجزيئاً من الناحية الفكرية شكل محاضن لتلك التجزئة واستمرارها.
فبين التجزئة والوحدة أو المستلزمات لها من تكامل وتعاون وتضامن، وبين التبعية والاستقلال ومتطلباته من قوة وفاعلية، وبين التخلف والنهضة ومفاصلها من تنمية وعمران وإنماء،هذا الحال من التعدد واكبه عالم أحداث ونظم، غالباً ما سادت فيه علاقات وسياسات (التجزئة – التبعية – التخلف) أكثر مما أثرت فيها سياسات وعلاقات (التكامل والوحدة والاستقلال والنهوض). إن المفهوم كما تم إدراكه في عالم المسلمين شكّل مساراً مهمشاً للتعاون والتكامل، بل فرض واقعاً معظم تأثيراته سلبية على مفهوم الأمة عامة ومفهوم الأمة الإسلامية على وجه الخصوص، بل وأقام مؤسسات جامعة من الناحية الشكلية، ولكنها نُقضت في العمل من جراء إدراكات لهذا المفهوم من مثل السيادة وغيرها، إن البحث في فاعلية مثل هذه المنظمات الجامعة سواء كانت منظمات سياسية أو كلية أو نوعية، إنما يشير إلى ما يمكن أن يتركه هذا المفهوم وإدراكاته على تلك التكوينات وسياساتها وغايتها، وفي النهاية فاعلياتها. ومن هنا كان على هذه الدول ألا تقف كثيراً عند النشأة القسرية والمشوهة للدولة القومية، بل عليها أن تتعرف على التأثيرات السلبية التي يمكن أن تتركها في الوعي والسعي. وألا تقف عند عناصر سيادة قومية مهملة عناصر دولة قوية ذات سيادة حقيقية لا متوهمة، تصدع بها حينما يجب ألا تصدع بها، وتفرط فيها حينما يجب التمسك بها.
ومن هنا كان من الضروري البحث في التأثيرات العميقة والواقعية الذي تركها مفهوم الدولة القومية، كان من المهم فهم الدولة القومية ضمن مسارين؛ مسار الجماعة الوطنية كمفهوم جامع لقوى وفاعليات الداخل، وبناء كيان المصالح على قاعدة من اعتبارات الجماعة الوطنية، وما يصب في عافيتها وقدرتها وفاعليتها، ومسار الدولة القويّة كمفهوم يؤكد على تعظيم قدرات هذه الدول واتخاذ السياسات والعلاقات والمسارات والمؤسسات المؤكدة لممارسة بينية أو داخلية؛ إقليمية أو دولية تقوم على استثمار الإمكانات وتحويلها إلى قدرات ومكانة، وفاعليات ومؤسسات، فليس إنشاء هذه المؤسسات هو غاية الأمل ونهاية المطاف، بل إن ذلك يجب أن يكون ضمن عملية موصولة تتحرك من التأسيس إلى الفاعلية، فالأمر قد لا يتعلق بمزيد من العلاقات عبر القومية وكأنها تجري لذاتها لا آثارها وتأثيراتها، الأمر يرتبط بالأساس بعلاقات فاعلة عبر قومية تحقق أصول الفاعلية وضمان استمرارها واستثمار الطاقات والإمكانات لبناء المكانة.
التفكير في هذه الحال يجعلنا نؤكد أن مشروع الخمسة من المهم أن نجعله شأناً مختلفاً من حيث منطلقاته وسياساته فلا يكون أسيراً لهذه الحالة الحضارية الضاغطة على عالم المسلمين فتستشرف حالة الفاعلية والتأثير في المستقبل ضمن شروط وأدوات على رأسها تأسيس نواة تجمع فاعلة للنهوض تهدف لصناعة المكانة مستهدفة مجالاً حيوياً للحركة ومواجهة التحديات الكبرى وتؤسس العقل الاستراتيجي للأمة.
إن ضرورة بناء رؤى استراتيجية لمواجهة التحديات التي تعتمل في المنطقة التي صرنا نكابدها ونعايشها ليل نهار، في مشكلات وقضايا شتى، تحتاج منا نظراً استراتيجياً وعملاً وخططاً. خصوصاً حينما تحيط بالأمم المخاطر وأحاطت بالأمة كل التحديات من كل جانب، ومن المهم التأكيد أن صناعة الاستراتيجية تعبر عن ملكاتٍ في التفكير، ورشد في التدبير، ووعي في أصول التغيير، ذلك أن اجتماع هذا المثلث في تكوين البصائر الاستراتيجية أمر في غاية الأهمية. ومن هنا، فإن أحوال الأمة ومشارف الخطر وسيولة الأحداث وحروباً تنشب إنما تشكل أموراً جديرة بأن يجتمع لأجلها بعض هؤلاء الذين يهتمون بشأن الأمة، وضرورة أن يجتمع كل صاحب رؤية استراتيجية في عمل متراكمٍ ووفق آليات تبادل الرؤى والحوار الاستراتيجي، فإن رؤيةً استراتيجية وصياغتها من الأمور المهمة في هذا المقام.
من المهم في هذا المقام أن نتعرّف على مجموعة من الخرائط، وجب رسمها، لرفع الواقع من ناحية، والتعرف على مفاصله وإشكالاته من ناحية أخرى، ذلك أن الخرائط التي تتعلق بعالم الإمكانية على سبيل المثال يجب أن تكون واضحةً في الأذهان، فالأمر يتعلق بعدة وعتاد، كذا فإن من أهم الخرائط أيضاً خرائط القدرات، وهي تخرج من عالم الإمكانية إلى عالم القدرة والمكنة والتمكّن. هذه الخرائط التي تتعلق بالقدرات إنما هي التي تستثمر عالم الإمكانية، بما لا يزيد عليه، وتوظيفه في مقامه واستثماره في أوانه. ومن خرائط القدرات لا بد أن تُبنى خرائط التحالفات، لتؤصل المعنى الذي يتعلق بزيادة القدرة وتعظيم المنافع وتبادلها في الوقت نفسه، فإن تلك التحالفات من أهم الأدوات لمواجهة الخصوم، ضمن صناعة موازين قوى مواتية، تقوم على قواعد من التأثير والفاعلية. ومن أهم الخرائط أيضاً أن نتعلم كيف نرصد خرائط المخاطر والتحديات التي تحيط بالأمة في امتدادها الجغرافي، وخرائط الفرص والمنح، وكل ما يتعلق بالمساندة والدعم، وخرائط الاستجابات التي تحقق أفضل تفاعلٍ ممكن، واختيار أفضل البدائل فيما يتعلق بتحقيق الأهداف الكبرى والفاعلية العظمى، والانتقال من التعرّف على الخرائط وإمكانات الفعل والفاعلية فيها يفرض علينا أن نحدّد مجالات الاهتمام الاستراتيجي التي تشكل ميداناً للوعي الاستراتيجي، والعمل بالفاعلية المطلوبة في إحداث التغيير المقصود والمنشود.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.