عابدين في القاهرة إلى مدينة 6 أكتوبر في محافظة الجيزة، أتيحت لي فرصة الركوب مع سائق مصري يبلغ من العمر 59 عامًا، والذي أثرى المحادثة بمنظور لا يلقى التغطية الكافية لكنه موضوع حيوي يتناول التكاليف الخفية التي قد تترتب عن تحرّك مصر نحو تنمية المدن الكبرى والمشاريع الضخمة. وقد سلطت المحادثة والرحلة على حد سواء الضوء على تاريخ مصر مع هذه المنجزات الإنمائية الحافلة بالتحديات، وكيف أن شهية النظام لهذه المشاريع تترك المصريين العاديين في الخلف
بدأنا بالحديث عن آمال المصريين القديمة لبلدهم حيث أكد السيد وحيد: "أنه لمن المخجل حقًا ما يحدث لنا بعد الثورة." فذكرتُه أنه قد مرّت ثماني سنوات على الربيع العربي، فأوضح لي أنه يقصد ثورة 1952، التي أنهت النظام الملكي المصري الذي وضعه البريطانيون عقب الفترة الاستعمارية
تذكّر السيد وحيد كيف تمكن الجميع، من سياسيين ووسائل إعلام، من إقناع المصريين بأن ثورة 1952 حرّرت مصر. لكن جمال عبد الناصر، الذي وصل إلى السلطة في أعقاب الثورة، ابتكر أيضًا تقليدًا مصريًا للتأكيد على عظمة مصر، إلا أنه لم يقدم سوى القليل من الفائدة الحقيقية لمواطني البلاد. كان ناصر هو أول حاكم سلطوي وضع موارد الدولة في خدمة تطوير مشاريع عملاقة مثل سد أسوان، واعدًا بأن هذه المشاريع ستكون مفتاح التنمية الاقتصادية في البلاد.
اليوم ومع افتقارها للسيولة المادية تواصل الحكومة المصرية مسيرتها على خطى ناصر، إذ بدأت في بناء مشاريع ضخمة باهظة التكاليف بينما تغرق مصر في ديون أكبر مما يثير السؤال التالي
أين يقع المواطن العادي في هذه العملية الحسابية؟
تناول السيد وحيد الآمال الاقتصادية لهذه المشاريع الضخمة، لتبيان التناقض بين هذه الرؤى وبين الطبقية الاجتماعية الحالية التي تتجلى بوضوح بين حي عابدين و6 أكتوبر في الجيزة. حيث أضاف: "حاولي تذكر المشهد هنا في عابدين ونحن في طريقنا إلى 6 أكتوبر، ولاحظي كيف سيتغير الوضع ثم قارني الحياة هنا بهناك… أنا أذهب إلى 6 أكتوبر كغريب لإيصال الزبائن الذين يعيشون عادة في مجمعات سكنية محمية بالأسوار ومحاطة بالأمن. فالمال وحده هو الذي يحميك في هذا البلد، ليست جنسيتك أو حتى الضرائب التي تدفعينها". لقد كان واضحًا ما أراد السيد وحيد أن يلفت انتباهي إليه: إنّ التقسيم الطبقي الاجتماعي في مصر جليّ إلى حد كبير ويمكن ملاحظته ببساطة من خلال المقارنة بين المنطقتين
إنّ طلب السيد وحيد بأن أنظر إلى الشوارع يعكس ارتباطًا قديمًا بين الحكومة المصرية والهندسة المدنية والمعمارية للقاهرة
ولكن في عابدين، لا يمكن الفصل بين رائحة التاريخ والفساد. فالقمامة في كل ركن من أركانه. وتبدو على وجوه أطفال الشوارع معالم الإرهاق من واقعهم وهم منخرطون في بيع الصبار لأصحاب السيارات الفاخرة. ويومها، ابتسمت لي طفلة صغيرة عندما اشتريت منها طبقًا من الصبار، ثم توجهَت إلى سيارة كانت خلفنا وهي ترقص فرحا.
تُعتبر مدينة 6 أكتوبر واحدة من أكبر المدن في مصر، وتتألف بشكل أساسي من تجمعات سكنية محاطة بالأسوار ومساكن فاخرة وقد شيدت المدينة عام 1979 بموجب مرسوم رئاسي رقم 504 للرئيس أنور السادات تكريمًا للجنود المصريين الذين قُتلوا في حرب السادس من أكتوبر عام 1973. وتتصل بالقاهرة الكبرى عبر الطريق المداري 26 يوليو – الذي كان يطلق عليه في السابق اسم شارع الملك فاروق، إلاّ أنه تغير بعد الانقلاب السلمي سنة 1952.
كلّما ابتعد المرء عن وسط القاهرة، يزداد التركيز على الأحياء الفقيرة و العشوائية بهوائها الملوث الذي اعتاد عليه سكان القاهرة عبر عقود من الزمن. فالحياة التي توفرها مدينة 6 أكتوبر لساكنيها هي بمثابة سراب بالمقارنة مع التحديات التي يواجهها المصريون الذين يعيشون خارجها
صور الطبقية الاجتماعية في مصر بارزة بوضوح من خلال الطرقات والتصاميم الحضرية. فالشوارع و المدارات السريعة التي توفر الخدمة للنخبة في البلاد تبدو وكأنها مصمّمة ومنفّذة بعناية بهدف الحفاظ على التقسيم الطبقي في مصر. كما أدّى استمرار بناء المدن الكبرى في رفع ديون مصر الخارجية. ولعب دورًا حاسمًا في التمييز الممنهج ضد الناس قياسا بثرواتهم ومستوى السلطة التي يتمتعون بها في الحكومة
يثير الفقر الواضح في الشوارع المصرية التساؤل حول سبب إصرار النظام على الاستمرار في بناء التجمعات الحضرية لاستيعاب الأثرياء، مادامت هذه الجهود تعمق الفجوة الاجتماعية بين المواطنين، تستأصل الطبقة الوسطى وتزيد من تغول الفقر المزمن في مصر. فالجواب المُعتاد على هذا التساؤل، حسب كلام السيد وحيد، هو أنه قيل للمصريين إن هذه المشاريع الضخمة ضرورية لمصر "لمواكبة روح الحضارة"
في هذا الإطار، قام الخبير في إدارة المشاريع في كلية إدارة الأعمال بجامعة أكسفورد بانت فليفبيورغ، من تحديد الجاذبية الخفية التي تتمتع بها المشاريع الضخمة بالنسبة لأصحاب المصالح: فالمهندسون سعداء بتطوير تكنولوجيا جديدة، والساسة يستمتعون بالضوء الذي يُسلّط عليهم جراء بناء معالم مقترنة بهم، كما هو الشأن بالنسبة للمقاولين، والمصرفيين، والمحامين، والمستشارين، وملاك الأراضي، وعمال البناء – كلهم سعداء بحصصهم من المكاسب المادية الضخمة.
إن الحالة الراهنة في مصر تُظهر بوضوح أنّ المشاريع الضخمة تفشل في الوفاء بوعود الساسة الذين يقفون وراءها. وفي هذا السياق، يُشدّد فليفبيورغ على أن إنشاء المدن الضخمة بتكلفة مليار دولار لابد وأن تتجاوز هذا السقف وذلك حتى بالنسبة لاقتصاد بحجم ولاية نيويورك. ويُلاحظ في مقال نشرته مجلة إدارة المشاريع "بروجكت مانجمنت جورنال" أنّ تسعة من أصل عشرة مشاريع ضخمة قد تجاوزت ميزانيتها، هذا ويستغرق بناء أغلب هذه المشاريع وقتًا أطول بكثير ممّا هو متوقع. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك استغراق نيويورك لأكثر من عقد لتبدأ في تنفيذ مشروع إعادة بناء جسر تابان زي الذي يبلغ عمره 59 عامًا بقيمة 3.9 مليار دولار، وما زالت تكاليف الصيانة المستمرة في ازدياد متواصل
وفي ما يتعلق بالمشاريع الأخيرة يأتي توسيع قناة السويس خير مثال: فقد كان الهدف من هذا التوسّيع هو تحصيل 13 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2023 بدلاً من 5 مليارات دولار، وهو متوسط الدخل السنوي الحالي للقناة. بيد أنه بسبب غياب دراسات الجدوى، لم تفكر الحكومة في التباطؤ الحالي الذي تشهده التجارة العالمية، وبالتالي فمن غير المرجح أن تجني القناة الجديدة أي ثمارٍ في المستقبل القريب. بل إنّ بعض الخبراء يؤكدون أنه ومن أجل أن تحقّق القناة هدفها المحدد (13 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2023) يجب أن تنمو التجارة العالمية بنسبة 9 في المائة سنويًا حتى عام 2023
تؤكد دراسة بانت فليفبيورغ للمشاريع الضخمة رؤية السيد وحيد كأحد سكان القاهرة الأصليين، فالمشاريع الضخمة في دولة نامية مثل مصر لابد وأن تفرض عبئًا إضافيا على المدينة، ممّا سيعود بالربح على النخبة فقط. ففي حالة السيد وحيد الأمر واضح فهو يعمل كسائق أوبر بعد أن اشتغل كمدرّس للرياضيات لأكثر من 37 عامًا. واليوم بعد بلوغه سنّ الستين يتعين عليه التقاعد بمرتّب قدره 1100 جنيه مصري (حوالي 67 دولار). وبينما يدّعي خبراء الاقتصاد في الحكومة أنّ الاقتصاد المصري هو اليوم أفضل ممّا كان عليه منذ عشرات السنين، يتعيّن على السيد وحيد وآخرين مثلهُ أن يكافحوا لإيجاد طريقة للعيش مع مبلغ صغير كهذا
لقد أثارت رحلتي أيضًا قضية إيجاد مستقبل بديل: فماذا لو اعترف مهندسو التنمية في مصر بفشلهم الكامل في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي من خلال المشاريع الضخمة؟ ماذا لو تم تحرير اقتصاد البلاد والسماح للمبادرات الخاصة والمنافسة العادلة بالتطور؟ ماذا لو أدرك النظام أنّ تجريد المناهج التعليمية من التمييز الاجتماعي والكراهية من شأنه أن يعزز التماسك الثقافي بشكل أفضل؟
فعلى حد تعبير السيد وحي أصحاب السلطة "يقدمون صورة مصر المستقرة، بينما هي في الواقع في حالة غليان". أما فيما يتعلق بالشباب العاطل عن العمل والذي يجلس على أرصفة المقاهي بلا هدف: "لا يفهم سبب عدم عمله في هذه المشاريع والتي من المفترض أن ترسخ "مواكبة مصر لروح الحضارة".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.