متأزمين نفسياً واجتماعياً.. لهذه الأسباب لا تدفع ابنك إلى دراسة الطب

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/12 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/07 الساعة 08:35 بتوقيت غرينتش
ليتنا نُوجِّه ونُعلِّم مَن يقبع تحت مسؤولياتنا الاجتماعية كيف يكون مغامراً، لا يلتزم بالطريق المرسوم له

الطب من أكثر المهن التي تحمل قيماً إنسانية راقية، منها تخفيف آلام وأوجاع الناس، وهي مصدر من مصادر إدخال البهجة والسعادة على المرضى، هنيئاً لمن عمل بها، وتحلَّى بالقيم الملازمة لها.

وحديثي لا يتعلق بالطب والأطباء ومكانتهم في المجتمع، وإظهار جِدهم واجتهادهم وعبقريتهم، بقدر ما هو متعلق بالتعاطي المجتمعي مع (كلية الطب) والمنتسبين إليها.

لقد رأيت كثيراً من المتأزّمين نفسياً واجتماعياً من حولي من فئة الأطباء تحديداً، لاسيما الذين دفعتهم أُسرهم وثقافة مجتمعهم إلى دراسة الطب، وما رأيتُ مبدعاً إلا وكانت لديه أفكار خارقة ملهمة، أتت من خلف كل التطورات الحضارية، وهم قلة في المجتمعات، يمكن ملاحظتهم من بين كل المليارات.

يخطر على بالي في كثير من الأوقات أن بيئتنا الراكدة بحاجة إلى زلزال فكري وثقافي يوقظها من سباتها، كي ترتقي إلى مستوى به الحد الأدنى من الإنسانية، فضلاً عن العقلانية، في إطار الاستعلاء على كثير من القناعات البالية والعقليات المتحجّرة العاجزة المرتبكة.

لو خُيّرت بين أن يكون ابني طبيباً متفوقاً، متأزماً نفسياً، ضعيفاً على مستوى التعاطي الاجتماعي، وبين أن يكون حِرفياً ماهراً مبدعاً ذكياً ذكاءً اجتماعياً لاخترت الأخيرة بلا أدنى تفكير، ففتح البيوت وكسب العيش يكون أفضل مع النفسية السوية والعقلية المرنة، ذلك أن القدرات العقلية يُطوّرها ويُنمِّيها الاهتمام الصاعد من أعماق الذات، والأفكار الإبداعية لا تأتي إلا من رحم الاهتمام، فهي ليست تخصصاً، بل إنجازاً فردياً غير مخطط له.

لم يُعرف العالم عبدالرحمن السميط طبيباً، بل عرَفوه رجلَ خيرٍ وبرٍّ، عمَّ خيرُه أرجاءَ القارة السوداء، ولم يعرف الأكاديميون والمتخصصون والهواة، بل والعالم (كارل جوستاف يونج) طبيباً، بل عرفوه عالم نفس عملاقاً، ومؤسساً لعلم النفس التحليلي نظير اهتماماته بالنفس البشرية، ولم يعرف العالم (فردريك شيلر) طبيباً، بل عرفوه فيلسوفاً لا يقل روعة عن الأسماء العملاقة في هذا المجال، وشخصية يفتخر بها الألمان.

ولم يعرف العالم (سيجموند فرويد) طبيباً، بل عرفوه عالم نفس كبيراً ومفكراً موسوعياً، وضعه (مايكل هارت) ضمن العظماء المئة الذين تحدَّث عنهم في كتابه الشهير.

ولم يعرف العالم (فرانز فانون) طبيباً، ولكن عرفه العالم مناضلاً، صاحبَ تجربة رائدة في الكفاح مع أصحاب الحق، حتى ولو لم يكونوا من بني جلدته، فلقد انخرط الرجل في كفاح الشعب الجزائري ضد الفرنسيين، بعدما تخلّى عن جنسيته الفرنسية، وصارت مؤلفاته مرجعاً للباحثين عن الثورات.

حتى إن كثيراً من المهتمين لا يعرفون أن العبقري الروسي (أنطون تشيكوف) طبيبٌ في الأصل، لأنه أيقونة في الأدب، ورائد من رواد القصة حول العالم.

لقد ترأّس (جيم كيم) البنك الدولي، لا لأنه تخرج في كلية الطب، لكن لأنه كان عبقرياً في العلوم الاقتصادية، في بلد به عشرات الآلاف من علماء الاقتصاد، ذلك أن الاقتصاد لا الطب محور اهتمامات الرجل، فاستجابت له كل طاقاته ومهاراته.

ولم يعرف العالم (سانت بيف) الفرنسي طبيباً، بل أديباً صاحب قلم عميق، ولم يعرف العالم (وليم سومرست موم) طبيباً، بل روائياً وناقداً ومؤلف مسرحيات ترجمت كتبه لكثير من اللغات، وشهرته في العاصمة البريطانية لا تقل عن برناردشو.

ولم يعرف العالم (جوستاف لوبون) طبيباً، بل عرفه مفكراً فيلسوفاً اجتماعياً بارزاً، ولم يعرف العالَم العربي جاسم سلطان طبيباً، بل عرفوه منظراً لمشروع النهضة، ولم يعرف الأتراك والعالم نجم الدين أربكان مهندساً، بل عرفوه سياسياً بارعاً، وغيرهم الكثير…

الطب مهنة راقية، أصحابها من المجتهدين الذين سهروا الليالي وآثروا التعب على الراحة، ولهم كلُّ التقدير والاحترام، وحديثي ليس تقليلاً من شأنهم، بل هو تنبيه لأولياء الأمور الذين يصنعون قنابل إنسانية موقوتة، وتنبيه لأولئك الذين لا يرون الحياة بكل ألوانها، ويصرون على حصر الإبداع والاجتهاد والتميز في مجال دون غيره.

ليتنا نُوجِّه ونُعلِّم مَن يقبع تحت مسؤولياتنا الاجتماعية كيف يكون مغامراً، لا يلتزم بالطريق المرسوم له، لديه القدرة على التخلص من القوالب المصاغة، والإقبال على التجارب بنفسية سوية وروح وثّابة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد حمدي
كاتب وصحفي مصري