لماذا أمريكا على أعتاب حرب أهلية جديدة؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/12 الساعة 12:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/12/12 الساعة 12:13 بتوقيت غرينتش
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب/رويترز

ليس من قبيل المبالغة القول إن رئاسة دونالد ترامب وضعت الولايات المتحدة الأمريكية على طريق الفوضى والانقسام المجتمعي والسياسي الحاد؛ بل قد تكون وضعتها على طريق المجهول. قد يعتقد البعض أن ما أقوله محض تهيؤات، وقد يبدو حكماً مستغرباً باعتبار أن أمريكا هي دولة مؤسسات، ولكن مَن يتابع حيثيات المشهد الأمريكي المعاصر وتفاصيله يجد مؤشرات ومعطيات تدل على ذلك؛ إذ لا يكتفي ترامب بكسر قيم وأعراف أمريكية كثيرة، ناهيك عن الإساءة إلى سمعة مؤسسة الرئاسة وكرامتها، بل إنه يؤسس لنمط سياسي جديد لم تعرفه أمريكا من قبل، على الأقل في العصر الحديث. وإذا لم تكن الشبهات التي تدور حوله فيما يخص التواطؤ مع روسيا في مزاعم التدخل في الانتخابات الرئاسية، عام 2016، والتي جاءت به رئيساً، كافية للتدليل على مستوى الانهيار الذي تعيشه الولايات المتحدة، فإن فضيحة ضغطه على الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، من أجل إجراء تحقيق محلي يطال منافسه الديمقراطي المحتمل، جو بايدن، وابنه، بتهم فساد، تؤكد أن الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب غير الولايات المتحدة قبلها.

 المشكلة هنا، أن ما يعرف بالـ Establishment، أو "مؤسسة الحكم" التقليدية، أو ما يصفها ترامب، عن وعي بالـ Deep State، أو "الدولة العميقة"، بهدف نزع الشرعية عنها، تبدو عاجزة عن التصدي لكثير من سياساته الخرقاء، دولياً ومحلياً، وهذا مرتبط إلى حد كبير بالخلل الذي أصاب بنية النظام السياسي الأمريكي وتوازنات سلطاته الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية. وما دام ترامب يحظى بشعبيةٍ كاسحةٍ بين قواعد الحزب الجمهوري، فإن أغلب ممثليه في الكونغرس لن يتجرأوا على تحدّيه، وهذا يخلّ بمنطق نظام التوازنات، وبالتالي يوفر طوق نجاة لترامب أمام كل إساءة في استخدام السلطة، اللهم أن يقع تغيير جذري في التفاعلات الداخلية للحزب الجمهوري، أو أن يخسر ترامب الرئاسة عام 2020. حتى هذه النقطة الأخيرة غير مضمونة العواقب.

أخطر ما في تفاعلات فضيحة الملف الأوكراني التي اعترف بها ترامب بلسانه، وهو ما سمح  للديمقراطيين بإطلاق الإجراءات الأولية لاحتمال عزله من منصبه في مجلس النواب، أن ترامب لم يتورّع عن التلميح إلى احتمال تفجير شرارة "حرب أهلية" إن نجح الديمقراطيون في إقالته من الرئاسة.

وعلى الرغم من أن إقالة الرئيس عملية صعبة دستورياً، وتبدو شبه مستحيلة في حالة ترامب، إذ يحتاج الديمقراطيون إلى ثلثي أصوات أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يسيطر عليه الجمهوريون، فإن مجرد تلميح ترامب بـ"حرب أهلية" أمريكية بسبب ممارسة آلية دستورية يعد أمراً غير مسبوق في العصر الحديث للولايات المتحدة، هذا إذا كانت هناك سابقة تاريخية أمريكية أصلاً. لكن، ما يوجد سابقة تاريخية أمريكية له هو الحرب الأهلية، والتي استمرت زهاء أربع سنوات في القرن التاسع عشر (1861- 1865) بسبب الخلاف بشأن تحرير "العبيد"، بين الحكومة الفيدرالية مدعومة بالولايات الشمالية والولايات الجنوبية (الكونفدرالية). وقد خلفت تلك الحرب حوالي 800 ألف قتيل أمريكي وأضعافهم من الجرحى والمصابين.

قد يجادل بعضهم بأن الولايات المتحدة اليوم ليست الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وبأن الحكومة الفيدرالية تملك من أسباب القوة والسطوة والمؤسسات والتراكم الدستوري والقانوني وتراكم الخبرات، ما لن يسمح بانفلات شرارة حرب أهلية، وهذا صحيح إلى حد كبير. ولكن هذا لا ينفي إمكانية تفجّر نوع من "الصراع الأهلي"، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار انتشار الأسلحة الهجومية في أمريكا، ودرجة الانقسام المجتمعي بين اليمين واليسار، ومحبي ترامب وكارهيه، وصعود التيارات اليمينية العنصرية وتناميها. ومما يزيد من خطورة الوضع أن ثمّة عشرات الميليشيات اليمينية العنيفة موزعة في كل أنحاء الولايات المتحدة، ولديها، تاريخياً، حساسية وبغض للسلطة الفيدرالية. وما يعضد هذه المخاوف، أنه حين لمّح ترامب، نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، إلى إمكانية تفجر حرب أهلية أمريكية إن نجحت جهود الديمقراطيين في إقالته، سارعت بعض تلك الميليشيات، مثل Oath Keepers (المحافظون على العهد)، إلى دعوة أعضائها إلى الاستعداد لـ "حرب أهلية ساخنة كما جرى عام 1859". ولم تتردّد هذه الجماعة في التهديد بإعلان التعبئة العامة إذا أمرها ترامب بذلك، والإعلان عن عصيان مسلح إذا رأت أن قرارات الحكومة الفيدرالية "غير دستورية".

الأدهى أن ترامب الذي لا يزال يجادل بأنه ربح انتخابات عام 2016، على الرغم من أنه الفائز المتوَّج بها، وقد مضى على رئاسته قرابة ثلاث سنوات، قد لا يقبل نتيجة الانتخابات الرئاسية أواخر العام المقبل إذا خسرها، وقد يزعم أن تزويراً شابها. هذا ليس افتراضاً خيالياً، بل إنه لمّح إلى ذلك. إذا وقع ذلك، على الرغم من استبعاد حدوثه، قد نكون أمام صداماتٍ دموية بين أنصاره ومعارضيه، وحينها ستكون أجهزة الأمن في وضع لا تحسد عليه، إذ سيكون ترامب رئيساً انتقالياً، قرابة شهرين ونصف، حتى يتسلم الفائز منه، وهو ما قد يطلق أزمة دستورية غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي.

باختصار، وبغض النظر عن مدى واقعية إمكانية تفجّر حرب أهلية أمريكية، أو أيٍّ من أشكال الصدام المسلح المحدود بين أنصار ترامب والحكومة الفيدرالية، أو بين أنصاره ومعارضيه، إلا أن ثمّة حقيقتين لا جدال فيهما: الأولى، أن أمريكا تعيش انقساماً مجتمعياً وسياسياً حادّاً يصعب جسره، إذ إنه متصل بسؤال أي أمريكا نريد. الثانية، وهي مؤسسة على الأولى، أن رئاسة ترامب غرست بذوراً سامة في الحياة السياسة والثقافية الأمريكية، إن أثمرت يوماً قد تنتج للعالم فاشية أو نازية جديدتين، أشد خطورة وعنفاً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسامة أبو أرشيد
باحث فلسطيني مقيم في واشنطن
باحث فلسطيني مقيم في واشنطن
تحميل المزيد