أوعز المرجعية الشيعية في النجف، السيد علي السيستاني، أخيراً، إلى البرلمان العراقي بإسقاط رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، رغم أن المرجعية انسحبت من الساحة السياسية العراقية منذ عام 2005، بعد اقتناعها بعدم جدية السياسيين العراقيين وفسادهم. وكان هذا مأخذاً كبيراً على المرجعية، التي لم تعد لها آذان مصغيةٌ اليوم في الشارع العراقي، خاصة بين شباب التغيير والتجديد والتحرر. لقد أدرك الشعب العراقي أن المرجعية انسحبت أيضاً؛ حفاظاً على مصالحها لا أكثر.
كما أن الشباب العراقي الثائر لا يريدون مزيداً من الولاء لإيران أو غيرها، ويرفضون التبعية لأي جهة غير عراقية، سواء تبعية دينية أو سياسية. لقد نسيت الطبقة السياسية العراقية أن جيل الشباب العراقي ضمن جيل جديد يجتاح أوطاننا العربية المقهورة التي سيطرت عليها أنظمة فاسدة و "مصلحجية"، تحاول إنتاج أجيال من الخاضعين والخانعين يقبلون هذا الذل، ونجحوا إلى حد ما، في إنتاج الجيل الخاضع والخانع الذي هو جيل آباء وأجداد الموجودين في الشارع اليوم. لكن ذلك الجيل الخانع بدأ يختفي من كل بلاد العرب أخيراً، فكلمة "هَرِمنا" لن نسمعها مجدداً حين يبلغ هؤلاء الشباب العربي أعتاب الخمسين من العمر، ويبدو أن تلك الكلمة لن تجد لها مكاناً في المستقبل ضمن جملة مفيدة.
الدليل الواضح على ذلك هو أن الشباب العراقي اليوم يواجه رصاص الغدر الجبان الذي ينطلق من فوهات بنادق الميليشيات التابعة لإيران، يواجهه بصدر عارٍ، ليكمل بذلك الصورة العربية، التي ستكون هذه المرَّة من دون المستبدين الغارقين في بحر الفساد. لكن لم نتصور يوماً إجراماً كهذا الإجرام الذي يحدث اليوم في العراق، هل إلى هذه الدرجة لُقمة الخيانة عزيزة وغالية على أصحابها؟ لا يمكن تخيُّل ذلك.
لكن حسب المحللين السياسيين، فإن هذا الإجرام الفظيع بحق المتظاهرين العراقيين السلميين هو من أجل إسكات الشباب العراقي الثائر. ومُحرِّك هذا الإجرام هو السعي المشترك بين أمريكا وإيران من أجل استنساخ حكومة عراقية عميلة لهما ترعى مصالحهما كما الحكومات العراقية السابقة. أمريكا لا يهمها الديمقراطية ولا الحريات في العراق بالمرَّة، كل الذي يهمها هو حكومة تحمي الوجود والمصالح الأمريكية هناك، وأن تكون هذه الحكومة القادمة صديقة للكيان الصهيوني حتى لو كانت تلك الصداقة ما تزال جالسة تحت الطاولة.
أما إيران فهي تهدف إلى الإبقاء على متنفَّسها الوحيد في حال استمرار العقوبات الأمريكية، والإبقاء أيضاً على الميليشيات الفوضوية المسلحة البعيدة كل البعد عن الشعب وأطيافه، والتي لن تأتمر بأمر الحكومة حين تصبح تلك الحكومة شريفة وغير تابعة لإيران، وفي حال رفض الشعب التدخل الإيراني في العراق كما يحدث اليوم فستغدر به وتقتل أبناءه، الكل يعلم الآن أن الذي يقتل الشباب العراقي الثائر هم الميليشيات التابعة لإيران، ضاربة عرض الحائط بالحكومة والشعب والبلد.
لكن هذا لا ينفي أن الحكومة العراقية ما زالت تطرب لسماع دوي الرصاص، وتسعد برؤية أشلاء الشباب الثائر وهي تتناثر على الشوارع وفي أروقة المستشفيات، فهذه الحكومة ما زالت تتمنى أن تتضاعف أعداد القتلى، التي وصلت الآن إلى أكثر من 430 قتيلاً وآلاف الجرحى، علَّه يخرج مِن الشعب مَن يدعو إلى وقف الثورة، من أجل حقن الدماء، فهي من مصلحتها القضاء على الثورة، كي يُبقي السياسيون على حصصهم من الثروات الهائلة التي تُنهب يومياً، وأيضاً كي تُثبت لإيران وأمريكا أنها كانت -وما زالت- مُطيعة وراعية لمصالحهما.
لكن لسان حال الثوار اليوم يتمثل في قوله تعالى من سورة الحِجْر: "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ".
الواقع أن العراقيين، خاصةً الشباب منهم، لا يثقون اليوم بتحركات المرجعية الشيعية في النجف وقراراتها وتوجهاتها، حتى وإن ظهر أنها تقف إلى جانب ثورتهم ومطالبهم المشروعة، لثلاثة أسباب: أولهما أنهم باتوا يدركون أن دافع المرجعية هو الخوف من أن تتعرض هي الأخرى للهجوم بنهاية المطاف، بعد أن أحرق الثوار القنصلية الإيرانية في النجف مطلع ثورتهم، والثاني أن السيستاني كان -وما زال- يكرر مطالبه التي تشبه مطالب الثوار منذ زمن بعيد، لكن دون جدوى. والسبب الثالث هو عدم جدية هذه المطالب وهو الأمر الذي دفع الشباب العراقي في النهاية ليثوروا مهما كان الثمن باهظاً، ونحن ندرك معهم أن الثورة هي الحل الوحيد، من أجل تنفيذ مطالب الشعب المقهور والتخلص من التبعية لإيران وأمريكا ومحاكمة الفاسدين والقتلة، ويبدو أنه لم يعد أمام الشعوب اليوم من خيارات غير تلك باهظة الثمن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.