المشرد الذي جاء ليحكم المدينة.. قصة صعود نادال إلى عرش التنس

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/05 الساعة 15:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/12/16 الساعة 13:05 بتوقيت غرينتش

كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية ورواجاً في العالم، حيث ملايين من المشجعين والمجانين حول العالم. عادة ما تبدأ علاقتنا بكرة القدم في الصغر، مانحةً إيانا قدراً كافياً من  الشجاعة للإقدام على أولى المغامرات، كالهروب من المدرسة لمتابعة مباريات النادي الأهلي في كأس العالم للأندية باليابان والتي كانت تبث في الساعات الأولى من الصباح. لم تكن تلك كبرى حماقاتنا، لكنها كانت الإرهاصات التي ستمتد بعد ذلك وتتمدد وتلازمنا حتى الكبر. ليصل الأمر إلى الاعتذار عن اجتماعات مهمة، لمشاهدة مباراة أو مذاكرة منهج الكيمياء بأكمله ليلة الامتحان، لأن ذلك الأسبوع كان أسبوع دوري أبطال أوروبا.
كان يكبر شغفنا باللعبة وينمو أسرع منّا بكثير.

وهناك فِرق نشجعها ولاعبون نتعلق بهم، وقدر كبير من الحرية والمهارة، خاصةً تلك القادمة من شاطئ الكوباكابانا، لدرجة تُخرجنا عن وقارنا وتُحررنا من كل القيود المكبِّلة للألسنة. من المستحيل مثلاً أن تطلب من مهووس أن يلتزم مقعده وفريقه خاسر، ولا أن تطلب من مناصر أن يفرح بهدوء لفوز فريقه، نصاب من أجلها بنوبات من القفز الهستيريّ المستمر، فالأحبال الصوتية فداء للفريق.

أتذكر أنني قابلت شيخاً غير حكيمٍ ذات مرة، فقال لي: "إذا أردت اختبار صلابة أخلاق أحدهم فالعب معه الكرة". أشفق عليه جداً هذا الكهل، لأنه لم يلعب كرة القدم الحقيقية ولو مرة واحدة في حياته.

أن تكون مشجعاً يعني بالضرورة اشتراكك في طقوس الهوس الجماعي مع آخرين لا يربطك بهم سوى الشغف المجنون بالمستديرة، هؤلاء الذين هم على استعداد للتضحية بالعالم من أجل تمريرة متقنة أو مراوغة "صايعة" تصدر بعدها الكلمة الاعتراضية الأشهر في القاهرة وضواحيها. وهم ينتظرون بشوق ولهفة تصدياً خرافيّاً لحارس مرماهم، أو هدفاً قاتلاً في اللحظات الأخيرة.

لكل هذه الأسباب شعرت بالملل عندما جاورت أبي وهو يشاهد مباراة تنس. كانت المدرجات ممتلئة بمجموعات من العواجيز الأثرياء وقلة من الفاتنات. وقواعد اللعبة صارمة شديدة، وأرضية الملعب العشبية والترابية منها مهذبة بعناية فائقة كأنها غرفة عناية مركزة لا مجال فيها للخطأ. وأصبت بقدر لا بأس به من الإحباط بعد فشلي في إقناع أبي بعدم جدوى متابعة لعبة، أكثر ما تستطيع انتزاعه من مشجعيها هو التصفيق. لعبة كهذه من الأفضل للاعبيها ارتداء رابطات العنق عوضاً عن الملابس الرياضية، كل شيء مُعَد سلفاً بإحكامٍ شديد، يا له من يوم ممل!

في هذه الأثناء استدارت الكاميرا للنصف الآخر من الملعب، ليظهر لاعبٌ له شعر طويل هائج غير مصفف، ملامحه حادة وعضلاته مفتولة وملابسه غير مهندمة إطلاقاً، يبدو أن ثمة لاعباً جاء من الأدغال للتو.

نادال عام 2007

كان المشهد لافتاً جداً كلحظةٍ خارج السياق تماماً، خاصة عندما كان يصرخ بكلمة إسبانية غير مفهومة تكسر كل هذا القدر من الرتابة التي تصدرها صور العواجيز الأثرياء وقواعد اللعبة الصارمة وأناقة اللاعب الآخر. بدا لها حينها أنّ مشرداً جاء ليحكم مدينة الأمراء.

ملك الأراضي الترابية 

قد يبدو غريباً أن يبدأ مقال يتحدث بالأساس عن "رافا نادال" كواحدٍ من أساطير لعبة التنس بالحديث عن كرة القدم، لكن المفارقة التي تعرض لها نادال نفسه في سنٍ مبكرة هي التي أجبرتنا على ذلك، فاللاعب الجامح الذي يبدو مشرداً كأنه نشأ في أزقة إسبانيا وحواريها وُلد لأبٍ ثري يدير أعماله الخاصة وأُم من سيدات المجتمع ليحظى بالرعاية التقليدية لأسرة أكثر ما يؤرقها المستقبل الدراسي بالطبع، لكن نادال الطفل كان له رأي آخر، حيث كان يمارس لعبة كرة القدم والتنس في الوقت نفسه، ويُقال إنه برع فيهما معاً. لكن الأب الثري كان يخشى على استثماره -أي مستقبل رافائيل الدراسي- فأجبره على الاختيار بين إحدى هواياته فإما كرة القدم وإما كرة المضرب.

طفل لم يتجاوز العاشرة وُلد في بلدٍ أهم معالمها وأكثر مزاراتها السياحية هو استاد لكرة القدم، حيث الكلاسيكو الأشهر في العالم بين برشلونة وريال مدريد، ذلك الطفل الذي يرى ملصقات لاعبي الكرة بكل مكان؛ في الشارع والصحف وضيوف دائمين على الشاشات، تبدو المقارنة سهلة، إذ لا يوجد طفل بإمكانه مقاومة بريق الكرة وكل هذا القدر من الإغراء والشهرة المضمونة. لكن لأنه وُلد ليكون استثنائياً منذ البداية سار في الطريق الأكثر وعورة، اختار كرة المضرب، ذلك الاختيار-الذي لم يُنسه شغفه القديم بكرة القدم- نجح فيما بعد في جعله واحداً من ستة أشخاص فقط في إسبانيا ليست لهم أي علاقة بالكرة، لكن لهم الحق بالدخول إلى غرف خلع الملابس الخاصة بالمنتخب، حيث شارك نادال لاعبي منتخب بلاده الفرحة بالانتصار الذي حققوه بالفوز بنهائيات كأس العالم لكرة القدم 2010 في جنوب إفريقيا، للمرة الأولى بتاريخ البلاد.

لكن ثمة شخصية مهمة في حياة رافائيل كانت مؤمنة به منذ البداية وساعدته كثيراً في التطور، هذه الشخصية هي عمه ومدربه ولاعب كرة المضرب السابق "توني نادال"، الذي ظل وراءه حتى جعل عالم التنس يلتفت إلى الصغير القادم من مايوركا، كانت بدايات نادال توحي بأننا أمام وحش كاسر قادم ليغزو عالم التنس.

ففي عمر الـ12 كان نادال بطلاً لإسبانيا وأوروبا بمجموعته العمرية، أما في الـ15 صار نادال لاعباً محترفاً، ثم في عمر الـ17 كان أصغر لاعب بالتاريخ يصل إلى الدور الثالث من بطولة "ويمبلدون" منذ الأسطورة الحية بوريس بيكر. قبل هذا التاريخ بعام واحد، قرر عمه أن يلعب نادال بيده اليسرى بدلاً من يده اليمنى، لتكون له الأفضلية في الساحة، واستمر الصعود الصاروخيّ للماتادور حتى فاز بكل بطولات الغراند سلام وفاز بميدالية أوليمبياد بكين.

لكن اللحظة الفارقة والعلامة الأبرز في صعود رافا كانت نهائي بطولة ويمبلدون المقامة على الأراضي العشبية، النهائي كان ذا نكهة خاصة، حيث التقى فيه المصنف الأول عالمياً وقتها روجر فيدرير والذي كان قد فاز على نادال في نهائي الموسم الماضي.

بدأ اللقاء الأطول في تاريخ البطولة بفوز نادال بالمجموعة الأولى والثانية بحصة 6-4 قبل أن يعود المايسترو ويفوز بالمجموعتين الثالثة والرابعة بنتيجة 7-6. وفي المجموعة الرابعة حصل رافا على فرصة الفوز بالبطولة وكان الجميع يستعد للاحتفال، وعمه واقف في المدرجات، والده متأهب للقفز، كل شيء مثاليّ ليلقي نادال بجثته على الأرض كما يحتفل دائماً، لكن فيدرير قرر العودة وعاد في المباراة وفاز بمجموعتين متتاليتين. لتحتكم المباراة إلى مجموعة أخيرة فاصلة، والأفضلية النفسية لفيدرير الذي عاد لتوه من بعيد، لكن نادال فعل المستحيل وفاز بها الإسبانيّ بنتيجة 9-7، ليشهد العالم أمتع وأطول نهائي لبطولة ويمبلدون.

صورة تجمع نادال وفيديرير في بدايتهما

لم تكن هذه البطولة هي المَعلم البارز الوحيد في تاريخ الإسباني، بطولة "رولان غاروس" إحدى بطولات الغراند سلام المقامة على الملاعب الترابية، هي التي شهدت لحظات التوهج الأكبر في حياة الإسباني، فمنها بدأ رافائيل مشوار حصد الألقاب الكبيرة، لكن المدهش لم يكن فوزه بها مرة أو مرتين، بل فوزه بها 12 مرة، منها 9 في 10 أعوام فقط! 

إلى جانب عديد من الأرقام القياسية في البطولة ذاتها، حيث فاز بلقبين دون خسارة أي مجموعة، والفوز بـ31 مباراة على التوالي!

وفي كل البطولات التي كانت تقام على ملاعب ترابية، كان الجميع يعرف من الذي ستؤول إليه الغلبة، حتى إن نسبة فوزه على الملاعب الترابية وصلت إلى 92.9% طبقاً لرابطة محترفي التنس ATP، حتى تمت تسميته "THE KING OF CLAY" أو "ملك الأراضي الترابية".

"فلنكن واقعيين، أنا الآن المصنف التاسع عالمياً، هذه هي الحقيقة، لا أدري إن كان باستطاعتي أن أعود كما كنت أم لا".

كان الحديث في بداية عام 2012 أن نادال هو من سيتربع على عرش التنس، ففيدرير ورغم كثرة إنجازاته، فإنه يسبق نادال في العمر بسنوات عدة، ومع ذلك فالماتادور قريبٌ من معادلة أرقامه، لكن الرياح لم تجرِ بما تشتهي السفن.

كان هذا التصريح المرفق أعلاه من نادال يمثل رصاصة الرحمة منه علينا نحن عشاقه وعلى كل متابعي التنس، يطلب منّا بطل الطفولة أن ننسى الماضي وأن نفكر بواقعية، فالإصابة التي ألمَّت بركبته وأبعدته كثيراً عن الملاعب وأجبرته على الانسحاب أحياناً أخرى، في طريقها للانتصار عليه، يطلب منّا نسيان ما كان يفعله بالخصوم، يطلب منا أن ننسى كيف كان يعود من الهزيمة ليفوز بالمباراة بعد أن كان متأخراً بمجموعتين نظيفتين وعلى بعد نقطة واحدة من الخسارة مثلما فعل مع الأرجنتيني نالبنديان، يطلب منّا نسيان الذكريات التي حُفرت في الذاكرة.

تبدو الأحلام الوردية دائماً صعبة المنال، فعودة نادال إلى سابق عهده صارت من المستحيلات، ربما تتأهل مصر إلى كأس العالم ولا يعود رافا!

لكن مهلاً، تأهلت مصر بالفعل إلى كأس العالم وعاد رافا مرة أخرى وأصبح المصنف أول عالمياً.

في النهاية، مَثل نادال كمثل توتي لروما بأَسرها، لا يسأله أهلها فيما جاء وفيما ذهب، لا يسألونه عن عدد ألقاب الإسكوديتو التي أدخلها خزينة النادي. مثلهم كمثل زيدان لأهل فرنسا، لا يسألونه عن ركلة البانينكا أمام إيطاليا ولا يعترضون على نطحته لماتيراتزي.

كل ما نطلبه من رافا ألا يتوقف عن الصراخ بكلمة VAMOS مع كل نقطة يفوز بها. وهي كلمة حماسية تحفيزية تعادل "COME ON" في اللغة الإنجليزية.

تنويه

ورد بالخطأ في نسخة سابقة أن نادال حقق المجموعة الأولى، ثم عادل فيدرر، ثم حقق نادال المجموعة الثالثة، ثم عادل فيدرر.
والصحيح أن نادال حقق أول مجموعتين 6-4 6-4، ثم حقق فيدرر المجموعتين الثالثة والرابعة بواقع 6-7 6-7، ثم حقق نادال الخامسة 9-7.

علامات:
حذيفة حمزة
كاتب ومحرر
محرر، وباحث في علم الاجتماع الرياضي
تحميل المزيد