هيا بنا نبني دولة جديدة

عربي بوست
تم النشر: 2019/12/04 الساعة 14:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/12/05 الساعة 14:01 بتوقيت غرينتش

فكرة بناء مؤسسات جديدة أو مؤسسات موازية للمؤسسات القديمة بعد حدوث عملية تغيير سياسي هي فكرة جذابة وبراقة بالنسبة للكثير من السياسيين، مثلاً: بناء جيش جديد بدلاً من الجيش القديم، إنشاء منظومة قضائية موازية خاصة بقضايا محددة بدلاً من إصلاح النظام القضائي القديم، عمل مؤسسات تعليمية أو صحية موازية للمؤسسات القائمة، لكن موجودة في أماكن محددة، أو تهتم بتخصصات معينة.. كل هذه أفكار تُطرح عند الحديث عن تغيير سياسي في بلد ما.

ميزة هذا الطرح أنك تبني مؤسسات ملائمة للسياق الجديد، وقادرة في الوقت ذاته على التعامل معه، وفي الوقت نفسه تتخلص من المؤسسات القديمة التي كانت غالباً جزءاً من المشكلة التي أدت لحدوث التغيير، لكن هذا التصور فيه إشكاليات وعيوب كثيرة، تجعل من اختياره كاستراتيجية للتغيير قراراً قد تكون له عواقب وخيمة.

وهذا يحدث بسبب مجموعة من التحديات:

أولها: أن عملية بناء المؤسسات الجديدة ليست عملية سهلة كما يتصور البعض. والأهم أن سياق نشأة هذه المؤسسات يؤثر بشكل كبير على طبيعتها. وفي سياق عدم استقرار وتحديات متنوعة فإن إمكانية بناء مؤسسات فاعلة ومستدامة يكون تحدياً كبيراً. فالمؤسسات التي تنشأ في أوقات عدم الاستقرار والاضطراب، وتكون رد فعل لهذه الاضطرابات تعيش غالباً بمشاكل مزمنة مرتبطة بنشأتها، تظل معها لفترات طويلة دون حل.

ثاني هذه التحديات أن هذا التصور غالباً يختار الطريق الأطول والأصعب (وهو بناء مؤسسات جديدة أو موازية)، ليس لأنه الأصوب، لكنه "تكاسل" عن فحص المؤسسات الموجودة بالفعل، ومعرفة الخلل فيها ومحاولة إصلاحها. في أحيان كثيرة تكون مشكلة المؤسسات القائمة فقط الحاجة إلى تغيير القيادة، أو الحاجة إلى توفير تمويل مناسب، أو وضع أطر وقواعد للعمل واضحة، أو رفع المستوى المهني والبشري. وكلها أمور يمكن أن تتم في وقت قصير، وتحقق نتائج واضحة، بشرط توفر الإرادة السياسية. وبدلاً من القيام بذلك يفضل بعض السياسيين وعد المواطنيين بتغيير المؤسسات بالكامل، لأن هذا الخطاب يكون مناسباً أكثر لمراحل التغيير، ويُعطي للسياسي جماهيرية أوسع.

ثالثها: أن هذه التصورات في بعض الأحيان تكون واجهة لأفكار توليتارية (شمولية)، يحاول السياسيون الجدد إقناع  الشعب بها.

بمعنى آخر، تكون لديهم تصورات عن محاولة بناء وهندسة الدولة والمجتمع بشكل معين، من أجل خدمة أيديولوجيا محددة يتبناها هؤلاء السياسيون، ويسعون من خلالها لتشكيل دولة ومجتمع جديد مختلف تماماً عن المجتمع السابق. من أجل أن يحدث هذا تظهر عند هؤلاء السياسيين الحاجة إلى إنشاء مؤسسات وأطر تنظيمية جديدة، تضمن إحداث هذا التغيير، وفي نفس الوقت تضمن مشاركة شعبية واسعة فيه. وبهذا الشكل تصبح فكرة المؤسسات الجديدة أو البديلة فكرة مقنعة لهم، وذات جدوى، رغم أنها يمكن ألا تكون أفضل حل موجود.  

رابع هذه التحديات يتعلق بحالة بناء مؤسسات موازية للمؤسسات القديمة (كبناء حرس ثوري موازٍ للجيش، وأجهزة شرطية جديدة مع إبقاء بعض الأجهزة القديمة، ومؤسسات اقتصادية جديدة تقوم بمهام يمكن أن تقوم بها مؤسسات موجودة بالفعل… إلخ) وأن هذا يخلق تحدياً جديداً وكبيراً، وهو تضخم في هياكل الدولة الإدارية والتنفيذية. ما يعني أن التحديات والمشاكل القادمة من مجموع المؤسسات القديمة التي كانت موجودة مع النظام السابق والمؤسسات الموازية التي نشأت مع النظام الجديد سوف تزيد ولن تقل.

وأظن أنه عند حدوث تغيير سياسي فإن السياسيين ليسوا بحاجة إلى تحديات جديدة، فيكفي ما سيكون قائماً بالفعل وقتها.

أما على المدى المتوسط والبعيد، فإن هذا العدد الكبير من المؤسسات يصعب من إدارة مؤسسات للدولة، كما أنه يجعل منها مهمة شاقة للسياسيين المنتخبين.

إن وجود عالمين مختلفَين ومتوازيين  من الأجهزة التي تعمل على نفس المشاكل والقضايا ليس فقط تحدياً كبيراً يتضمن إهداراً كبيراً للموارد المالية والبشرية، لكنه أيضاً يشتمل بداخله على إنشاء عالم من الصراع المستمر والمتصاعد بين هذه المؤسسات، والذي لن يكون من السهل التحكم فيه أو في نتائجه.  

الخلاصة التي أود أن يصل إليها القارئ ليست هي أن إنشاء المؤسسات الموازية أو الجديدة بعد عمليات التغيير السياسي هو خيار خاطئ بالكامل وشر مطلق.

ولكن الفكرة الرئيسية هي  أن هذا الاختيار هو قرار يحمل في داخله تحديات تقنية كبيرة ومتشابكة، كما أنه في نفس الوقت يؤسس لنظام سياسي يزيد من الحجم الإداري والتنفيذي للدولة. والأهم أنه يخلق بداخله مساحات وآليات للصراع الدائم والمستمر، وأن الأفضل من ذلك أن يكون الهدف أثناء مراحل التغيير هو السيطرة المدنية الديمقراطية على المؤسسات القائمة. وتأكيد هذه السيطرة على مستوى الإدارة العليا لهذه المستويات وفي مجال صنع السياسات العامة لها. وأن يكون هذا بالتوازي مع تبنِّي سياسات وآليات جديدة تضمن عمل هذه المؤسسات بفاعلية أكبر وبشفافية أكبر.  

لذلك، فكلما تحدث أحدهم أمامي عن التغيير في مصر من خلال بناء مؤسسات جديدة تماماً أو موازية للمؤسسات الحالية، فإنني أستمع لكلامه بكثير من الشك!

فأنا لا أدري هل يدرك فعلاً -بعد تأمل ودراسة- أن تكلفة بناء مؤسسات جديدة أو موازية هي تكلفة مرتفعة، لكنه مع هذا لا يزال يرى أنها السبيل الأصوب لمصر، وفي تلك الحالة فإن نقاشاً عميقاً وموسعاً يمكن أن يحدث بيننا حول كيف يمكن أن تتم هذه العملية بنجاح، وما الشروط اللازمة لنجاحها، أم أنه لا يدرك ما يقول، فيطلق كلاماً في صورة شعارات ومطالب مرتفعة، يكسب بها جماهيرية زائفة وشرعية زائلة، لكنها ستؤدي بنا -إذا طُبقت بالفعل- إلى مصائب جديدة نحن لسنا في حاجة إليها، فما يوجد حالياً من المشاكل يكفي ويزيد.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أحمد محسن
باحث دكتوراه في العلوم السياسية
باحث دكتوراه متخصص في العلوم السياسية والسياسات العامة . حاصل على ماجستير السياسات العامة من معهد الدوحة للدراسات العليا (2017). له عدد من المقالات الأكاديمية المحكمة. ينشر بإنتظام في عدد من الصحف والمواقع الإخبارية. وتتركز إهتماماته في مواضيع تغيير السياسات العامة في الدول غير الغربية، العلاقات المدنية العسكرية، ودراسات الشرق الأوسط.
تحميل المزيد