فصل أول.. صيف 1999
العاصمة السابقة للبرازيل وأفضل مدن البلاد على الإطلاق، ريو دي جانيرو، في أحلى حلة لها طوال العام، شواطئ الكوباكابانا، إيبانيما وليبلون مكتظة بالسائحين الأوروبيين الباحثين عن الشمس، تجدهم محتلين الرمال الحارة محتضنين المحيط، مزاحمين سكان المدينة الأصليين أماكنهم المعتادة فلا يتركون مكاناً إلا وكانوا أصحاب قدم فيه، ترى أيضاً الفتيات الأوروبيات يحدقن النظر في مفاتن نظيراتهن اللاتينيات بعجب ممزوج بالحسد، بينما يفتح رجالهم أفواههم تعبيراً عن دهشتهم للطريقة التي يروّض بها البرازيليون الكرة والنساء على حد سواء. تمثال المسيح الفادي أو "كوركوفادو" كما يطلق عليه أهل البلاد، تذاكر القطارات الموصلة إليه قد نفدت تماماً منذ أسابيع طويلة والوصول إليه صار أصعب من الوصول إلى منزل الرئيس.
على الجانب الآخر من الصورة، المدينة صارت مزدحمة للغاية، قرابة الـ15 مليون إنسان يتنفّسون على سطحها، حافلات النقل تختنق، أسعار سيارات الأجرة تضاعفت تقريباً بسبب السياح الأغنياء، الأوضاع الاقتصادية لمعظم قاطني المدينة لا تسمح لهم باقتناء سيارة خاصة، حتى مترو الأنفاق ورغم افتتاحه عام 1979، أي منذ 20 عاماً ما زال يغطي أجزاءً محدودة من المدينة ويمتلك خطين رئيسيين و35 محطة لا غير لم يعد به مكاناً لقدم.
طفل واحد لم يكن يشعر بشيء من هذا، في الحقيقة هو لا يشعر الآن بالعالم كله وبالتأكيد غير واعٍ بالقدر الكافي ليتابع تجدد الصراع الباكستاني-الهندي على كشمير، وليس لديه رباطة الجأش الكافية ليقرأ أرقام كل الأصفار الواردة في تفاصيل صفقة استحواذ شركة فورد على فولفو التي تمت منذ أيام. هذا الفتى ذو الـ17 عاماً فقط كان قد أُخبر للتو من قبل والده أنه سينضم إلى تدريبات الفريق الأول لنادي فلامينغو البرازيلي لتحقيق حلمه الذي لم يتوقع أن يتحقق بهذه السرعة، هذا الفتى هو أدريانو ليتي ريبيرو.
"يراوغ كالأفعى، يضرب كالمدفعية، يلتحم كالجنود، إنه خارق للعادة، لم أرَ طفلاً بكل هذه الإمكانيات في حياتي"
. مدرب فلامنغو آنذاك إيفاريستو دي ماسيدو.
هذه الكلمات تعطينا فكرة كافية عن إمكانيات الفتى الصغير أدريانو، الذي سيصبح فيما بعد بطل النيراتزوري ومعشوق جمهور الجوزيبي مياتزا ونجم هجوم البرازيل مناصفة مع الظاهرة. كل شيء يسير على ما يرام، الفتى الصغير لم يعد صغيراً بأدائه الخارق وأهدافه الحاسمة التي جلبت لقب الكأس لفلامنغو، 20 هدفاً في 35 مباراة بالدوري البرازيلي أي بمعدل أكثر من نصف هدف في كل مباراة لفتى لم يبلغ الـ18 بعد، إضافة إلى 11 هدفاً في 20 مباراة في كوبا ليبرتادوريس، كل هذه الأرقام ما كان ليمكن إخفاؤها مدة طويلة عن أعين الكشافين خاصة عندما قاد هجوم منتخب بلاده للفوز ببطولة كأس العالم للناشئين. وبالفعل ابتعث نادي الإنتر وفداً لمشاهدة اللاعب ومن ثم التفاوض مع إدارة فلامنغو إن أعجبهم اللاعب، وبالفعل تمت الموافقة على الصفقة لينتقل اللاعب إلى الأراضي الإيطالية مقابل 6.5 مليون جنيه إسترليني أي حوالي 8 مليون يورو آنذاك.
لكن الفتى الصغير الذي غرته ابتسامة صغيرة من الدنيا لم يكن يعلم أن الأمور لا تسير بهذه السهولة، لن تأتي كطفل صغير من البرازيل لتصبح هداف جنة الأرض بين ليلة وضحاها، هناك ضريبة لا بد أن تدفعها يا عزيزي.
فشل في أخذ مكان في تشكيلة هيكتور كوبر الأساسية أو حتى الوجود على دكة البدلاء للفريق لأسباب تشبه تلك الأسباب التي كان يعاني بسببها الظاهرة، مما دفع البرازيلي صغير السن كبير الجثة للرحيل من إنتر متوجهاً إلى نادي الجنوب فيورنتينا، ليسجل 6 أهداف في 15 مباراة شارك فيها، لكن فيورنتينا لم يجدد مدة الإعارة ولم يطلب التعاقد مع أدريانو ليعود مرة أخرى إلى ميلانو ليقابل العنيد كوبر مرة أخرى الذي سيخرجه هذه المرة إلى بارما، حيث سينفجر البرازيلي كما البركان مسجلاً 25 هدفاً في 22 مباراة ليعود هذه المرة إلى الجوزيبي مياتزا كما الإمبراطور وهو الاسم الذي يحب أن ينادى به!
بدأت رحلته مع الإنتر بشكل مثالي، 9 أهداف في 16 مباراة مثّل فيها شراكة لا حل لها ولا قبل لمدافعي الكالشيو بها مع كريستيان فييري وفاز بلقب الدوري الإيطالي 4 مرات على التوالي وبالكأس مرتين والسوبر ثلاث مرات وتوّج بالحذاء الذهبي عام 2005، وفاز ببطولة أبطال القارات في نفس العام مع البرازيل وحصد جائزة هداف البطولة وابتسمت الحياة لأدريانو وفتح عالم كرة القدم له ذراعيه عن آخرها وصارت الجماهير تهتف باسمه وأصبح شعار النيراتزوري مرتبطاً بالإمبراطور!
فصل ثانٍ.. صيف 2004
"مكالمة أنهت كل شيء"
خافيير زانيتي قائد إنتر ميلان التاريخي: "في بداية موسم 2004-2005 كان كل شيء يسير على ما يرام، حتى أتت تلك المكالمة المشؤومة، قذف أدريانو هاتفه ثم ما هي إلّا ثوانٍ معدودة حتى بدأ بالصراخ والنحيب كما الأطفال، لقد وصله خبر وفاة والده للتو، منذ ذلك الحين قررت أنا وموراتي رئيس النادي أن نعتني به ونحميه كما لو كان أخانا الصغير".
في البداية نجح الأمر أو هكذا اعتقدنا، لقد استمر في اللعب وتسجيل الأهداف وكان يهديها إلى روح والده، كنا نقول له إنك مزيجٌ بين رونالدو وزلاتان وبإمكانك أن تكون أفضل منهما يوماً ما لكن الحقيقة أنه لم يعد مثلما كان أبداً، استمر الاكتئاب في سرقة روحه ببطء لم نقدر على فعل أي شيء، لقد فشلنا، لقد كانت المكالمة التي أنهت كل شيء.
لم يكن والد أدريانو مجرد أب لابن يلعب كرة القدم، بل كان صديقه المقرب ومساعده ووكيل أعماله، هو من دعمه في أصعب لحظات حياته حينما طرده هيكتور كوبر وأخبره أن فانلة الإنتر ثقيلة عليه وعندما رفض فيورنتينا شراءه، كان أبوه من يعطيه الإيمان والثقة، لكن فجأة ودون مقدمات رحل، لقد كان كل شيء بالنسبة له.
يقول أدريانو: "لقد تركت وفاة والدي جرحاً كبيراً لن يندمل أبداً، أنا وحيد، مكتئب وحزين هنا وحدي في إيطاليا، لا أشعر بالسعادة إلّا عندما أشرب الكحول، أشرب بجنون كي أكون سعيداً، لقد كنت أذهب إلى التمرين وأنا مخمور تماماً، كان هذا الحل الوحيد للاستمرار في الحياة".
حاول إنتر إعادة ليتي جونيور إلى مستواه وأعاره إلى نادي ساو باولو لكن المحاولة باءت بالفشل ثم انتقل بعدها أدريانو إلى فلامنغو وكورنثيانز لم ينجح فيها كلها حتى وصل به الأمر إلى التعاقد مع نادي ميامي يونايتد في الدرجة الرابعة الأمريكية لكن النادي فسخ عقد اللاعب لزيادة وزنه.
في وسط كل هذا الفشل والإحباط كان أدريانو قد بدأ في تعاطي المخدرات وراجت إشاعات عن تجارته فيها لكن شيئاً من هذا لم يثبت، لكن الثابت أنه بدد ثروته التي جناها من لعب الكرة وانتقل للعيش في حي فقير جنوبي البرازيل في منازل أقل من المتوسطة ليكتب نهاية قصة فتى كان يعتقد الجميع أنه قادر على تدمير سور برلين لكن قلبه الصغير لم يحتمل، لم يحتمل كل هذا الحزن.
ربما يرى أحدهم أدريانو كأحمق مراهق صغير ليضيع حياته بهذا الشكل التراجيدي وربما يراه آخر إنساناً مرهف الحس لم يحتمل رحيل أقرب الناس إليه، لكن في النهاية يجب أن نعلم كمشجعين أن كرة القدم ما هي إلا جزء بسيط من هذا العالم واللاعبين ليسوا ملكاً لنا وليسوا آلات وماكينات لا تتوقف عن الركض بل بشر مثلهم مثلنا يحزنهم ما يحزننا ويفرحهم ما يفرحنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.