المملكة العربية السعودية لها مكانة خاصة في قلوب المسلمين؛ نظراً لوجود الحرمين الشريفين بها، ولسياستها المعتدلة، ومواقفها الداعمة للدول الإسلامية وللقضية الفلسطينية، وموقفها الصلد ضد المشروع الإيراني الصفوي وجيوبه الخبيثة في اليمن وسوريا والعراق، وتضحياتها الكبيرة في حرب اليمن الجارية منذ عام 2015.
وفي حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، حاربت السعودية بفرقة لها، وحتى في حرب العدوان الثلاثي عام 1956، شارك فيها الملك سلمان بن عبدالعزيز. وفي الستينيات من القرن العشرين، احتضنت السعودية الفارِّين من معتقلات الأنظمة الديكتاتورية مثل النظام الناصري.
ولكن في السنوات الأخيرة فوجئنا بالسعودية وهي ما برحت تقف مع الثورات المضادة للربيع العربي؛ ودعمها غير المحدود للسيسي خير مثال. وحتى القضية الفلسطينية، ما انفكت الشبهات تحوم حولها بالنسبة لصفقة القرن المشبوهة، والدعوات الفردية السعودية للتطبيع مع العدو الصهيوني بدأت تترى في الآونة الأخيرة. وقطر المجاورة والشقيقة للسعودية وعضو مجلس التعاون الخليجي العربي، فُرض عليها الحصار البري والبحري والجوي؛ فأنَّى لهم القيام بشعيرة الحج؟! وأنَّى للفلسطينيين في سوريا الحج؟![1]
وهذه التغيرات الأخيرة في سياسة المملكة العربية السعودية لم يُتوقع لها أن تحدث أبداً.
إن الملايين من العمالة في الدول المسلمة وغير المسلمة يتمنون أن يجدوا تأشيرة عمل بالمملكة العربية السعودية. ويوجد الملايين بالسعودية الذين يتمنون أن يتحصلوا على جواز السفر السعودي.
وكانت المملكة السعودية رحيمة رحمة كبيرة بالمقيمين بها، ومثال ذلك عندما اندلعت حرب الخليج الأولى في 2 أغسطس/آب 1990، وغزا صدام حسين المنطقة الشرقية للسعودية بعد غزوه للكويت، ومع ذلك لم يُزِد الملك فهد -رحمه الله- أي رسوم على المقيمين سواء في إصدار أو تجديد الإقامة أو تأشيرات السفر أو غيرهما، وحتى السلع الغذائية حافظ على ثبات أسعارها.
ولكن في السنوات الأخيرة، زادت أسعار السلع زيادة كبيرة بسبب حرب اليمن، وفرضت الحكومة السعودية الضريبة المضافة وقيمتها 5%، وهي ضعف زكاة المال والذهب، وسعودت المملكة الكثير من الوظائف وطردت العاملين بها بالرغم من مضيهم سنوات بعيدة في عملهم، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، إنما زادت رسوم تجديد الإقامة للمقيمين مع زيادة مهولة في رسوم التأمين المصاحب لتجديد الإقامة والتي تصل أحياناً إلى 40 ألف ريال سنوياً للذي عنده عدة أبناء؛ مما جعل الآلاف يفرون من المملكة أو على الأقل يسفرون عائلاتهم نهائياً، وهذا ليس في صالح الاقتصاد السعودي؛ لأن السعودة في مجال بيع وصيانة الجوالات على سبيل المثال دمرت هذه التجارة مما جعل الكثيرين من التجار وأصحاب الشركات السعوديين يغيرون تجارتهم في الجوالات لغيرها (غير المسعود)، وسَفر الآلاف نهائياً شل حركة اقتصاد تأجير السكن والشراء والغذاء والسفر عما كانت عليه من قبل.
ورسوم تأشيرات السفر كانت لعهد قريب لا تزيد عن 200 ريال حتى لو كانت تأشيرة السفر لمدة سنة، ولكن تغيرت هذه الرسوم إلى 200 ريال للسفر لمدة شهر أو شهرين وتزيد 100 ريال عن كل شهر بعد ذلك؛ ويعني هذا أن تأشيرة السفر لمدة عام تصل إلى 1200 ريال، فما هو الحال لو كان عند المقيم أربعة أبناء يدرسون ببلدهم ولا يأتون إلا في الإجازة الصيفية ورسوم تأشيراتهم لسفرهم هي 4800 ريال؟!
وفي الحج، كانت السعودية تسهل هذه الشعيرة المقدسة، وكانت تصدر تصريحاً بخمسين ريالاً للمقيمين بداخل المملكة وتشترط شهادة التطعيم الخاص بالحج، وبعض مكاتب المعقبين كانت تتكفل بإصدار تصاريح الحج مجاناً ابتغاء مرضات الله.
ولكن في السنوات الأربع الأخيرة، تغيَّر الوضع تماماً وأضحى الحج شعيرة لا يقوم بها إلا الأغنياء؛ نظراً لاشتراط المملكة على السعوديين والمقيمين أن يصدروا تصريح الحج من موقع وزارة الحج بالإنترنت؛ حيث توجد ثلاثة أنواع للحج؛ برنامج الضيافة والاقتصادي 1 والاقتصادي 2. والضيافة تتراوح أسعاره ما بين 7500 وحتى 15500 ريال، أما الاقتصادي 1 و2 فتتفاوت أسعارهما ما بين 3500 وحتى 6500 ريال. والنوعان الاقتصاديان يختفيان في أول يوم من بدء الحجز ومن الصعب الحجز بهما؛ نظراً لتوقف الموقع كثيراً بسبب الضغط عليه، أما الضيافة فمتواجد حتى يوم 9 من شهر ذي الحجة نظراً لارتفاع سعره ولا يوجد أي ضغط عليه. وحتى حج القرعة (المدعم) بمصر وصل سعره إلى 150 ألف جنيه، فما هو سعر حج غير القرعة والمتوسط والفاخر؟![2]
ومع هذا النظام الجديد لحجز الحج، شددت الحكومة السعودية الرقابة على منافذ دخول الحجاج حتى تمنع غير المصرح لهم بالحج من الدخول للأماكن المقدسة لإجبارهم على إصدار تصريح رسمي وهو شاق ومكلف على الكثيرين من المقيمين، ومنْ غامر وذهب للحج فإنه سيتعرض (للتبصيم) بأصابع اليدين العشرة؛ ومعنى ذلك أنه لن تُجدد له الإقامة وسيعود إلى بلده!
في كتاب إحياء علوم الدين بالمجلد الأول، أنكر أبوحامد الغزالي على أهل مكة حينما يؤجرون السكن المعتمرين والحجاج واعتبره من المنكرات، وهذا كان في القرن الرابع الهجري؛ فليأتِ الغزالي الآن ليرَ كيف تحولت هذه الشعيرة المقدسة إلى بيزنس يرتع فيه الأغنياء!
يُشكر للمملكة العربية السعودية أنها خففت نظام
الكفالة نسبياً وخاصة في السنوات الأخيرة، وعسى أن تزيله نهائياً؛ لأنه لا يناسب
العصر الحديث. ويُشكر لها أيضاً أنها نظمت شعيرة الحج، ومنعت الخيام التي كانت
منصوبة حول الجمرات وفي طريق المشاة، ووسعت أحواض رمي الجمرات، وشيدت الأدوار
المتعددة لرمي الجمار، ومدت خطوط المترو الكهربائي بين أماكن الحج المختلفة، وبين
مكة والمدينة المنورة، ونظمت الطرق للذهاب والعودة في كل منافذ الأماكن المقدسة،
وشيدت المراكز الصحية والمستشفيات الحديثة لاستقبال المرضى، غير المئة ألف جندي وسواعدهم
القوية المنصوبة لتنظيم الحج ورعاية الحجاج، ولكن لابد من الرحمة بالمقيمين بها
وغيرهم في دول العالم الإسلامي، وكذلك التيسير على الذين يتمنون القيام بشعيرة
الحج، التي يجب أن تكون في منأى عن ألاعيب السياسة والتجارة والبيزنس.
[1] REVEALED: How Saudi Arabia has blocked Palestinians fleeing Syria's war from Hajj
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.