"وما هي الخطيئة التي اقترفتها نحو الله حتى يغفرها لي؟ بم أذنبت نحوه حتى يصفح عني؟"
هكذا ردت إحدى بائعات الهوى على "ماتفي" بطل رواية "أين الله؟" لمكسيم غوركي بعدما قام بمواساتها بكلمات لا تخلو من تأنيبها لاقترافها مثل هذه الممارسات متوقعاً أن الله سيغفر لها خطيئتها لأنها ارتكبتها مدفوعة بعامل حبها لولديها. وذلك بعدما قصت عليه الظروف التي تحت وطأتها تحولت إلى بائعة من بائعات الهوى.
فاختفاء زوجها -على غير عادته- بعد سفره إلى نهر دنيبر ليسير رمثاً فتح صفحة جديدة من صفحات الشقاء لربة هذه الأسرة. وبالرغم من ديمومة بحثها عن عمل يدر عليها مقدار ما يطعم ولديها، إلا أنها كانت تعمل يوماً وتقضي بالبطالة أربعة نظراً إلى حال السوق وقلة الوظائف، ناهيك عن أن الجُعالة كانت زهيدة جداً لاسيما بالنسبة للنساء.
لذا؛ فإنها ارتأت في نصيحة حماتها التي أسرت إليها بها طوق النجاة لها ولولديها بالرغم من صفاقتها التي أودت بها عاهرة من وجهة نظر المجتمع.
لكن ماذا عساها تفعل بعد أن أغلقت جميع الأبواب في وجهها وبات بيع جسدها هو السبيل الوحيد لإطعام ولديها اللذين يدميان قلبها عندما تراهما يتضوران جوعاً؟
ولداها، "أوسيب" صاحب الأربع سنوات، "وكانغا" الأصغر منه في السن، اللذان نالا من قسوة أمهما الكثير رغم اشتداد العوز والحاجة بهم جميعاً. فكلما أخذ الجوع منهما مأخذه وبكيا وسألا أمهما عن الخبز ليسدا رمقهما قامت بضربهما، فيبيتان على الطوية، فعلام تأنيبهما؟
واستشفيت من هذه السطور، أنها لن تستطيع إطعام ولديها إذا ربأت بنفسها عن القيام بمثل هذه الممارسات التي تشمئز منها الفطرة السليمة لكنها أمام نارين فإما أن توأد ولديها وتتخلى عنهما أو تمرغ نفسها في حمأة الخطيئة وتعوله.
كما أن عبء العوز لإطعام طفليها جرد منها الإحساس بالذنب فهي ترى أن الظروف القهرية التي زجت بها الأقدار في حومتها كفيلة بأن تجعلها تستسيغ ابتذال جسدها كبائعة هوى. وتعتقد أن الممارسات التي تأنف منها النفس البشرية السليمة وتنتهك كرامتها كإنسانة لا تستحق الاعتذار وهذا ما سيتضح بعدما أردفت حديثها قائلة: "الله يصفح عن خطيئتي! ما أجمل هذا الغفران؟ ولكن بماذا أسأت إلى الله حتى أسأله أن يشملني بصفحه، ماذا صنعت؟ أيطرحني في أتون الشقاء ثم يمنُّ علي بالغفران، أهذا هو العدل السماوي؟"
مما سبق سرده من أحداث الرواية، أماطت لنا حكاية هذه السيدة اللثام عن حقيقتين على الترتيب؛ أنه لا يوجد مجرم بالفطرة، وأن الفقر المدقع والظروف المأساوية هي التي تدفع بعض السيدات إلى ارتكاب مثل هذه الممارسات.
وأجلى مكسيم غوركي في سطور روايته هاتين الحقيقتين بصورة لا تدع مجالاً للشك. ففي أغلب الأحوال تلعب الظروف الاقتصادية المضنية دوراً محورياً في تحويل الشخص إلى مجرم أو تحويل الشريفة إلى عاهرة.
وهنا تطرح هذه الأسئلة نفسها:
. هل من يتعرض لمثل هذه الظروف المفجعة يعتبر مجرم في الأساس؟ أشك.
هل السيدة التي تتعرض لظروف لا يعلمها إلا الله باءت بها إلى التجارة بجسدها تعتبرعاهرة؟ أشك.
لو كانت بائعة الهوى في حكاية مكسيم غوركي تعيش حياة آدمية وتستطيع إطعام أبنائها هل كانت ستتحول إلى عاهرة؟ أشك.
على غرار هذه السيدة، هل كان سينتهي الحال بالسواد الأعظم من فتيات الليل لهذا المصير لو أنهن لم يلدن في ظروف مختلفة دون عوزٍ أو حاجة ينوء بها كاهل المرء منا؟ أشك.
هل من يسرن في مثل هذا الطريق يسيرون فيه حباً في الخطيئة؟ أشك.
لماذا -إذاً- في مجتمعنا لا نبحث في الظروف والأسباب التي صيّرت هذا الشخص مجرماً وتلك السيدة الشريفة عاهرة باعتبارهم ضحايا، بل ننظر إليهم نظرة استنكافية واستنكارية ويتم تأليب الرأي العام عليهم ويتأهب الجلادون بسياطهم للنزول على ظهورهم؟
نبشت هذه الحكاية في صندوق ذكرياتي فتذكرت بينما كنت أسير مع أحد أصدقائي في شوارع المحروسة أشار إلى فتاة تجلس في إحدى السيارات الخاصة مع شاب قائلاً لي: "البت دي شمال" وعندما انبلجت ملامح الاستفهام على وجهي استكمل كلامه بأن الشاب الجالس بجوارها قد أشار بيده بعلامة أنه سيعطيها نقوداً، فهرعت إليه على إثر هذه الإشارة.
هذه الواقعة الخاطفة تشترك في الخطوط العريضة مع حكاية بائعة الهوى في رواية غوركي، وتثير ذات التساؤل حول العوامل والظروف التي تدفع الفتاة إلى ابتذال جسدها. أو بعبارة أخرى ما حكاية هذه الفتاة، فكل شخص مرق بسلوكياته عن الفطرة السليمة وراءه حكاية ينبغي تقصيها قبل الحكم عليه وتوجيه الاتهامات إليه أو إليها جزافاً. فإن كانت حكاية السيدة التي جاءت في رواية مكسيم غوركي هي من نتاج قريحته، إلا أنها مستقاة من الواقع المرير المتجدد المعتاش على الفقر الذي نحيا فيه والذي لم تذهب مرارته في ثنايا السنين. ففي وقتنا الراهن يشيح مجتمع المدعين وجهه عن دراسة هذه الظروف التي تدفع الفتاة إلى ممارسة هذه الممارسات ويدعي بالبلاهة، بدلاً من أن يأخذ بيديها، ويضعها على مستهل الطريق السديد. فتعيش -دون ثمة رحمة- هذه الفتاة كنكرة في وسط مجتمع المدعين الذي يوصمها بالعاهرة أو باللفظ الدارج شعبياً في مصر "البنت الشمال". لذلك فأنا لا أملك غير أن أقول لأفراد مجتمع المدعين "والله أنتم اللي شمال".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.