كفانا عنصرية.. علموا بناتكم الشجاعة!

تم النشر: 2019/11/21 الساعة 16:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/21 الساعة 16:38 بتوقيت غرينتش
Teenage girl solving mathematical problems. The boy is drawing a graph of a mathematical function. Nikon D850

كانت طفلتي مريم تبلغ من العمر آنذاك 5 سنوات، عندما أحضرتها إلى منطقة الألعاب بأحد المراكز التجارية. وبعد أن جربتْ عدة ألعاب أشارت إلى تلك اللعبة المغلقة المكونة من بضعة أدوار، وبها كرات وحجرات صغيرة، والتي تتسلق فيها سلالم من الحبال وتمرّ عبر ممرات ضيقة.

بعد أن صعدت وسط هتافات التشجيع من أمها، وقفت أمام ذلك الجسر القصير من الشباك دون أن تتحرك، وعندما سألناها ما بها، قالت إنها خائفة. حاولت أن أفهمها أن الأمر آمن وليس به ما يُقلق، لكنها أبت بشدة، وبالطبع بدأت دموعها في النزول.

كما هو متوقع، طلبنا من المشرفة على هذه اللعبة أن تقوم بإنزالها، لنقول لها "لا مشكلة، الأمر عادي، لنلعب لعبة أخرى"، دون أن نعود لنتحدث معها في هذا الموضوع مرة أخرى.

تمر الأيام وتدخل مريم إلى الصف الأول الابتدائي، وفي أحد الأيام أرسلت المدرسة ورقة تطلب فيها إذن ولي الأمر إذا رغب في مشاركتها بدروس للرقص، تمهيداً للمشاركة في حفل نهاية العام الدراسي. كان الأمر مشجعاً لنا للموافقة، لكننا فوجئنا بمريم ترفض المشاركة، والحجة: لأني لا أريد الأداء أمام الطلاب والمدرسين. حاولنا إقناعها لكنها أصرت، فاستسلمنا كالمعتاد.

تطور الأمر بعد ذلك حتى وصل إلى حد إقناع مريم لأختها الأصغر، بعد مرور 3 سنوات، بعدم المشاركة في هذه الدروس أيضاً، رغم أن أختها الصغيرة كانت متحمسة كثيراً لأنها تحب الرقص.

بالنسبة لي، هذه بنت، وبالتالي هي ليست مطالبة بأن تخوض في هذه الأمور التي تتطلب الجرأة كثيراً، على عكس لو كانت ولداً. الصبيان مطالبين بأن يخوضوا في هذا العالم بقوة وشجاعة أكبر، لكن طبيعة النساء تختلف.

لكن لم أكن أدرك في ذلك الوقت أني شخص عنصري.

الفيديو الذي غير حياتي

منذ بضعة أيام كنت أتصفح موقع ted، ومر عليّ عنوان غريب بعض الشيء: "علموا البنات الشجاعة وليس الكمال". كانت المتحدثة تدعى ريشما ساوجاني، وهي ناشطة في مجال التعليم ومؤسسة مبادرة Girls Who Code المختصة بتهيئة الفتيات الصغار للدخول إلى عالم التكنولوجيا.

تحدثت ساوجاني عن تجربتها "الشجاعة" عام 2012، عندما ترشحت للكونغرس في انتخابات الحزب الديمقراطي عن مقعد تحتله سيدة منذ عام 1992. طوال سنوات كانت ساوجاني في مكان آمن خلف كواليس جمع التبرعات وتنظيم المبادرات، لكنها الآن بعمر الـ33 عاماً، وتريد الترشح بقوة والدخول أكثر في هذا المجال. هذه كانت طريقتها لإحداث فرق وإرباك الوضع الروتيني الحالي.

استطلاعات الرأي أشارت بوضوح أن هذه الفكرة مجنونة ومستحيلة، لكنها أصرت على الترشح. وكما هو متوقع خسرت السباق لجمعها 19% فقط من الأصوات بعد أن أضاعت 1.3 مليون دولار بلا طائل، حسب ما ذكرت بعض الصحف آنذاك.

ورغم أن الأمر كان محرجاً لها، إلا إنها قامت بـ "عمل شجاع"، وهذا هو المهم بالنسبة لها كونها لم تهتم بكونها مثالية وكاملة، بل بخوض التجربة في حد ذاتها دون خشية من النتائج. النساء يبحثن عن الوظائف التي يعرفن أنهن سيكنّ مميزات بها ويتقنها، والسبب أن هؤلاء يتم تعليمهن تجنب الفشل ولا داعي للمخاطرة.

وللصدمة كان هذا هو ما قمت به مع ابنتي!

لنقل إن هذا الفيديو غير طريقة تفكيري كلياً. بدأت بعدها أقرأ عدداً من التقارير والأبحاث التي تتحدث في هذا الشأن، لأكتشف بالفعل أني كنت مخطئاً فيما يتعلق بتربية ابنتي.

الشجاعة وليس الكمال

أحد الأبحاث التي اطلعت عليها أوضح أننا نقوم بالثناء على الفتيات لكونهن "ذكيات" أو "جيدات"، في حين أننا نثني على الأولاد حول "المحاولة الشاقة"، أو كما يقول بعضنا "شرف المحاولة". هذه الطريقة -للأسف- تُبرمج عقل الفتيات على البعد عن المخاطر، لأن التقييم متعلق بكمال النتائج، وبالتالي من الأفضل ألا أخاطر.

الأبحاث أشارت بوضوح إلى أن هذه الطريقة التي يتم خلالها الإشادة بالفتيان والفتيات لها عواقب في وقت لاحق من الحياة. وهو ما بدأت أراه خلال فترة الدراسة مع ابنتي. الآن، يمكن لمريم أن تقوم بأداء واجبها وتلخيص قصة كاملة، لكنها ترفض أن تقرأ هذا الملخص أمام زملائها بالفصل، حتى لا يكون هناك خطأ!

تشير الأبحاث أن الفتيات دائماً ما يتغلبن على الأولاد في مراحل التعليم الأولى، حتى في المواد الأكثر تعقيداً مثل الرياضيات والعلوم. هؤلاء الفتيات عندهن بالتالي القدرات على منافسة الرجال في كل المجالات، لكن الغريب أن تقديمهن للوظائف يكون أقل من الأولاد.

للأسف، ما علّمناه لبناتنا جعل الفتيات الذكيات سريعات الاستسلام، بل إنه كلما ارتفع مستوى الذكاء كنَّ أسرع في الاستسلام. الفتيات يردن الكمال وحده، بينما الصبيان يرون في كل مهمة أو وظيفة تحدياً جديداً يردن خوضه مهما كانت النتائج.

أشارت إحصائية لشركة hp التكنولوجية العملاقة، أن الرجال يتقدمون للحصول على وظيفة إذا كانوا مستوفين لـ60% فقط من المؤهلات المطلوبة، لكن النساء يتقدَّمن فقط إذا استوفين 100%. هذه ليست مشكلة ثقة بالنفس، لكن هذا الفرق عائد إلى ما قمنا بتربية بناتنا عليه، الكمال.

دون أن نشعر، نحن نعلم بناتنا أن كل شيء عليهن أن يؤدينه بكمال "لأنكِ أنثى". نحن كرجال لا نريد أن نرى الأرض تهتز تحت أقدامنا عبر إقحام النساء في أمور نعتقد أنها خاصة بنا فقط.

ربما الآن فهمنا السبب وراء نقص وجود النساء في مناصب الوزراء والمديرين التنفيذيين وغيرها. أنا لا أتحدث عن الوطن العربي، بل حتى الدول الأوروبية وأمريكا.

القرار: اخطئي يا طفلتي كما تشائين

علينا أن نعلّم البنات أن يكنَّ شجاعات، في المدرسة وفي بداية حياتهن المهنية، عندما تكون لديهن القدرة على التأثير في حياتهن وحياة الآخرين. علينا أن نظهر لهن أنه سيتم قبولهن والتعامل معهن بكل حب ولطف، مهما قمن بأخطاء أو كانت أفعالهن غير مثالية.

الآن بدأت أحب ابنتي، ليس لكونها مثالية، ولكن لأنها شجاعة. أنا موافق على كل شيء تريد تجربته، أو لا تريد تجربته. ربما لن أهرع إليها لأحملها بعد سقوطها على الأرض، بل سأنظر لها مبتسماً، وأقول: "ركوب الدراجة يحتاج لشجاعة.. هيا أكملي".

ربما سأقبل كل تجربة جديدة يمكن أن تقدم لها في المدرسة، وربما سأمنحها هدية على كل تجربة جديدة ترغب في خوض غمارها.

سأفكر جيداً "ما الذي كنت سأقوله لابنتي لو كانت ولداً". سأقول لها أن تلعب بخشونة، أن تتسلق هذه الحبال والشباك، أن الهدف هو ليس الوصول للقمة، لكن الجرأة والإقدام و "شرف المحاولة".

نحن لا ننتظر منكِ الدرجات النهائية، أو التفوق ولا شيء غيره، بل ننتظر منك أن تحدثينا في المساء عن تجربتك الجديدة التي قررتِ خوضها اليوم. أن تبتسمي وأنتِ تقولين لنا إن زملائك ضحكوا على طريقتك في سردك للقصة، وربما تُقلدين لنا بعضَ هذه الضحكات، المهم أنك تابعتِ للنهاية.

في السابق كنت أبحث لها عن أماكن لتعليم الرسم والموسيقى. هذا بالتأكيد أمر جيد، لكن الآن -بجانب هذه الأمور- أصبحت أتساءل: لماذا لا أعلمها البرمجة والتجارب الكيميائية، وغيرها من هذه الأمور.

لن أعرف ما تحبه ابنتي بالفعل ما دمت لم أفتح لها كل المجالات لتجرب فيها، بدلاً من اختيار الطريق الآمن لها منذ البداية.

هذا ما أصبحتُ أؤمن به الآن!.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علاء الدين السيد
صحفي مصري مهتم بالعلوم والصحة
صحفي مصري مهتم بالعلوم والصحة. حصل على شهادة البكالريوس في العلوم الصيدلية من جامعة الأسكندرية. يعمل في مجال الصحافة العلمية منذ 2010 وله العديد من الكتابات والتقارير المنشورة في المواقع والصحف العربية.