البداية كانت شيئاً من الاكتئاب الممتلئ به هواؤنا هذه الأيام، دفعني للبحث عن رواية خفيفة بها بعض الحزن، أو الكثير منه، وعن كيفية الانتهاء منه قبل أن ينتهي منا! وقد وجدت الذي أبحث عنه -على حسب ما كُتب عن الرواية كنبذة بسيطة للتعرف عليها- في رواية الجدار؛ على أساس أنها عن فتاة تعاني الوسواس القهري، وهو أحد صور الاكتئاب العديدة بالتأكيد، وتخيلت أن محور الرواية هو الاكتئاب كما أريد، وأن بها بعض طرق علاجه وكيفية التعامل معه حتى التعافي.. وهي كذلك.
رواية الجدار للكاتبة نورا ناجي، رواية تبدو شبيهة بمعظم الروايات الرومانسية المتداولة هذه الأيام التي تدور حول قصة حب بين شخصين، حب فشله متقدم قبل البدء فيه، والحبيبان يدركانه جيداً، ويستمران بلا وعي، ثم النهاية المأساوية التي نعرفها جيداً قبل الوصول إلى الخاتمة حتى.
بطلتها اسمها حياة، وفي الرواية سنرى حياةً، وقد تكون حياة أي منا، أو جزءاً من حياة كل منا، وهي تموت وتحيا مرات عديدة، فالرواية تجسّد حياةً كاملة بكل تفاصيلها قد يحياها أي منا ويذوق حلوها ومُرها بلا شك.
وقد صوّرت لنا بدقة حياة الاكتئاب التي كادت حياة تموت غرقاً فيها، لولا أن هداها أحد الرفاق إلى سبيل للخلاص.
ورغم أن القصة قد تستفزك بعض الشيء.. فـهذا النوع من الحب والإخلاص، بل الانتحار، فيه يثير حنق المرء على مدى الضعف والاستسلام الذي قد يملؤنا في أهم أمور حياتنا، والغضب والشفقة أيضاً على الفتاة التي فقدت نفسها وسلامتها، وتخلت عن بلدها الذي تحب وتطمئن به وكل بلد تعرفه هروباً من الشخص الذي أحبته، ومن نفسها العالقة المُنتهية في حب من لا يبالي، ولا يستحق، ورغم الحزن الشديد عليها وعلى طفلتها.
وعن مرارة العيش بمرض الاكتئاب وكل شيء حولك يزيده عليك ويوطّنه في نفسك كأنك تؤكد لها أحقية ما هي فيه الآن، فالعالم لا يمنحها شيئاً، إلا يدفعها به إلى الغرق في الحزن والاكتئاب!
لكن الغصة التي قد تشعر فور انتهاء الرواية لم تكن فقط لأجل حياة ومراحل حياتها القاسية التي مرت بها، ولا تجربة الاكتئاب اللعينة التي مرّت بها، والتي هي سبب بحثي ووصولي إلى هذه الرواية، وربما تكون المحور الذي قصدته الكتابة لروايتها.
فمعظمها ينتمي إلينا جميعاً، لطالما كانت العلاقات هي أكثر الأشياء تأثيراً في حياتنا؛ راحةً واطمئناناً أو إيذاءً وتدميراً، وربما خلل في كل ما هو آت بالنسبة لنا، وأوجاع تسكننا وتشوّهات في شخصياتنا نتعرف عليها لأول مرة، لكنها قد تلازمنا إلى الأبد فنشعر وكأن أنفسنا غرباء يسكوننا، لا نعرفهم ولا نستطيع فهمهم أبداً!
سببها الجملة المريرة، لكني لم أنتهِ منك يا خالد، أريد أن أنتهي منك، هذه الجملة تلمس القلب بشـدة.. تصيبه في أضعف نقاطه، فلطالما عانت هذا الألم. تذكرت حينها أن أقسى العلاقات وأسوأها أثراً تلك التي تنتهي دون أن ننتهي من أصحابها. نغادر أو يغادرون دون الوداع.. دون خاتمة!
طعنة الرحيل دون إنذار، دون سبب، دون توضيح، دون كلمات مهما كانت دلالاتها، دون أي شيء نجده حين تراودنا الأسئلة وقت الألم، دون نقطة! فتكون النهاية خالية من أي معنى، ولا خاتمة لكل الذي كان. هذا النوع من الترك والرحيل، ينهي الشيء في الخارج لا في الداخل، ينهي العلاقة الرسمية أمام الناس لا الفعلية القائمة بقلوبنا. تظل النهاية مفتوحة بداخلنا، متروكة لخيالتنا وقلوبنا، نشعر بهم بجانبنا، لكن لا نراهم، ننتظر ظهورهم في كل مكان، نبحث عنهم في كل الوجوه التي تمر علينا، نتسمّع أصواتهم في كل شيء حولنا.
كأن نعيش معهم عالم من خيال نحتفظ بطيفهم الذي يراودنا فيه حتى إن عدنا إلى الواقع الفارغ من وجودهم الذي تعلقنا به، نستدعيه فنأنس به! ضائعون تائهون بدونهم نكاد ننتهي دون أن يشعر بنا أحد، فكم من العلاقات انتهت وأنهت أصحابها بعدها لأن كثيراً من الكلام لم يقل، وتبقى الكلمات بداخلهم، هم فقط من يسمع صداها، ويؤلمهم ترددها بين الحين والآخر، فتذكرهم بما تناسوه، لا بما يعانونه وهم يحاولون تناسيه.
العلاقات طالت أو قصرت، أسعدتنا أو أحزنتنا، أضافت إلينا أو أخذت منا، أبهجت أرواحنا أو أطفأتها ونزعت الحياة منها. جميعها بلا استثناء يحق لنـا في النهاية كلمة الوداع، نقولها ونسمعها، حتى وإن لم تعها قلوبنا وقتها أو نأبى تصديقها من شدة الألم، لكن لابد أن عقولنا، ستحتفظ بها وتعيها جيداً وتعيدها على قلوبنا حين تشتاق إليهم، وتتساءل عن سبب غيابهم، ومهما رفضتها بعدها ستكررها عقولنا عليها مرات عديدة في مواقف مختلفة وبطرق كثيرة حتى تراها جلية أمامها فتلتقط خيبتها وتعي، فتكون النهاية حقاً والانتهاء!
فلا سبيل إلى بداية جديدة دون الانتهاء من سابقتها، وكيف الانتهاء دون نقطة، دون الخاتمة وكلمة الوداع، أما لو تُركنا بلا نهاية.. فكيف سنتعافى؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.