الليبرالية والاشتراكية وجهان لعملة القهر والاستبداد الواحدة.. وتبقى أطروحة الملائكة صحيحة حتى اللحظة

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/20 الساعة 17:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/20 الساعة 17:20 بتوقيت غرينتش

كان موسوليني ماركسياً يكره المسيحية ويعتبرها السبب في جعل الناس مُغيَّبين، حتى يتم استغلالهم بفظاعة. كان كلامه دائماً إنسانياً، ويدَّعي أنه سيُحاول إنقاذ المواطن الإيطالي من هذا الاستلاب حين يصل للسلطة. وبالطبع، وصل للسلطة، لكن لم يقضِ على الاستلاب، بل ألقى القبض على كثير من رفاقه الماركسيين وعذَّبهم. وأسس أفظع فاشية في تاريخ إيطاليا، لم تؤسسها حتى الكنيسة الكاثوليكية التي كان ينعتها موسوليني دائماً بالجثة العظيمة الميتة.

لقد كان موسوليني يحمل خطاباً مفعماً إنسانياً ومحملاً بكثير من القيم السامية، لكن ماذا حدث؟

لقد خلق فاشية بشعة، جعلت المواطنين الإيطاليين يكرهونه بشدة، لدرجة أنهم أعدموه معلَّقاً من رجليه وسط الشارع، ليصير عِبرة لمن لا يعتبر، وكان أي شخص يأتي ويطعنه بسكين أو ما شابه.

هكذا يحدث دائماً، هناك خطاب إنساني، يُحدث الفوضى، فحتى ولو كان يحمل مشروعاً لإنقاذ الإنسان من الحياة المُضنية، فإنه في الوقت نفسه إن تحقق فإنه يزيد من أزمة الإنسان في وجوده.

هذا ما أكده مشاغبو ما بعد الحداثة، حين ظهروا بإفرازات نيتشه، فقد قاموا، بضحكات مجنونة، بتخريب تمثال الخطاب الإنساني الذي أقامه مفكّروا عصر الأنوار. فمشاغبو ما بعد الحداثة يقولون إن الجميع يتحدث عن الإنسانية، ولكن الإنسان والطبيعة هما من يدفع الثمن دائماً. فالليبراليون كانوا يعتبرون أن الإقطاعية والكنيسة يستغلان الإنسان بطرق لا إنسانية. لكن حين نجحت الليبرالية في القضاء عليهما أسست نظاماً بديلاً استمر في استغلال الإنسان بالقوة المرنة، بل أكثر من هذا أفرزت نظاماً جديداً يسمى النظام الإمبريالي الشمولي، الذي يُحاول جعل كل شيء متشابهاً عن طريق الأسلحة المدمرة وعن طريق الاستهلاك.

وحين جاء الماركسيون، اتهموا الليبراليين بأنهم يستغلون الإنسان، فنجح الرفاق الماركسيون في تأسيس النظام الاشتراكي، لكنه حكم الناس بشمولية عن طريق المراقبة ونزع الملكية ومحاولة جعل الجميع مريدين للحزب الشيوعي الواحد، فلم يسمحوا بذلك لأية معارضة أن تقوم، لقد حكموا على الإنسان بالنار والحديد، لهذا حين سقط جدار برلين هرب الناس من ألمانيا الشرقية (التابعة للاتحاد السوفييتي) إلى ألمانيا الغربية التي كانت تحت ذراع النظام الرأسمالي الليبرالي. لقد هربوا من السلطة الشمولية التي تحكم تلك الضفة، وتخنق الذات الإنسانية.

لقد فضح مشاغبو ما بعد الحداثة "الخطاب الإنساني"، وأكدوا أن هذا الخطاب يتعلق بالثقافة والأيديولوجية وليس بالإنسان، فكل ثقافة وأيديولوجية تستعمل "الخطاب الإنساني"، لكن الإنسان دائماً ضحية هذا الخطاب، ليصلوا إلى نتيجةٍ، مفادها أن الإنسان قد مات، و "الخطاب الإنساني" هو من يحكم كل شيء، فأي فرد كيفما كان لا بد أن يسيطر عليه خطاب إنساني معين، يتحدث من خلاله وينتقد به الخطاب الآخر المختلف.

إذن، ليس هناك خطاب إنساني من حقه أن يدَّعي أنه هو الحل، بل كل الخطابات على حق ولكن ليس هناك خطاب سيحتكر الحق، وإن حاول ذلك فإنه يُعرِّض الإنسان للخطر. أي خطاب يتحدث لهذا سيكون موجوداً، ولكن وجوده لا يرتبط بما يقول، بل بأنه يتحدث فقط.

حين رأى يورغن هابرماس هاته الفوضى، فطِن إلى بشاعة الوضع الذي فجَّره نيتشه، فوصل إلى حل وسط وهو: "يجب على كل الخطابات ألا تفرض خطابها بالقوة، وإنما أن تُدافع عن خطابها بالأدلة العقلانية، أي أن يستعمل كل خطاب العقل التواصلي الذي يملكه حتى يؤكد أطروحته". فبهذه الطريقة فقط -حسب هابرماس- يمكن أن يحدث تمييز الأخطاء عن الصواب، أما أية طريقة أخرى فلن تُحْدث سوى الفوضى، وضحيتها الإنسان.

لكنَّ هابرماس (الذي لو كان نيتشه على قيد الحياة لقال عنه: "ألماني بهرمونات فرنسية"). خاف من السوفسطائية، واعتقد أن الحل سيكون سلمياً، متأثراً بالسلم العالمي الذي بشر به كانط، لكنه نسي أن القوة هي التي تحكم نتائج النقاش، وليس الأدلة. فكما قال أحد النسباويين: "حتى العلم ليس قوياً، لأنه على حق، بل إنه على حق، لأنه قوي".

فالمسألة التاريخية بين الخطابات الإنسانية مسألة صراع، ليس من أجل الإنسان، بل من أجل حركية التاريخ، فالإنسان مجرد دُمية في مسرح العرائس. تحرّكها الثقافات والأيديولوجيات. وهكذا، سيستمر الإنسان في إفساد الأرض وفي سفك الدماء، لأنه يملك عقلاً يحمل بداخلها الثقافة والأيديولوجية.

لو نظرنا إلى الآية القرآنية التي تقول: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"، فإننا نلاحظ هنا أن أطروحة الملائكة هي الأطروحة الصحيحة إلى حد الآن، لكن هذا طبعاً لن يُنهي الجدال لأطروحة الملائكة، فالله لم يُعطِ أطروحته، بل اكتفى "قال إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".

فماذا يعلم الله عن قدرة الإنسان ليتجاوز به أطروحة الملائكة المتشائمة الصحيحة لحد الآن؟ هل هذا يعني أن الإنسان سيصل إلى الخطاب الإنساني الواحد؟