كيف يُمكن أن يُلهمنا الأدب.. قصة الأدب الروسي الذي فجر واحدة من أعظم ثورات التاريخ

في عشرينيات القرن التاسع عشر في روسيا؛ بدأت مجموعتان من المثقفين والنبلاء وضباط من الجيش الملكي الروسي في التخطيط للثورة على النظام القيصري واغتيال القيصر الروسي ألكسندر الأول، وإعلان إلغاء القنانة (عبودية الفلاحين) وإنشاء ملكية دستورية في البلاد تقود العملية التنموية والصناعية في كل روسيا. لكن بوفاة القيصر المفاجئة تم التعجيل بخطة الثورة في كلا المجموعتين، الأولى في الشمال (سانت بيترسبورغ) والأخرى في أوكرانيا في الجنوب، وتم تحديد موعد 14 ديسمبر/كانون الأول 1825، للحراك على أن يتم فيه رفض حلف اليمين لنيكولاس القيصر الجديد واستغلال التجمع الشعبي للثورة وتحقيق مطالبهم.

لكن التظاهرة تحولت إلى مذبحة بين فصائل الجيش راح ضحيتها ما يزيد عن ألف شخص وتم إلقاء القبض على كل قيادات الحركة من المثقفين والنبلاء ورجال الجيش بعضهم سيتم إعدامه أو نفيه إلى سيبيريا لعقود، وفي الـ25 من ديسمبر العام نفسه اندلعت الحركة ذاتها في الجنوب في أوكرانيا والتي واجهت المصير نفسه.

أُطلق فيما بعد على هذا الحراك اسم "حركة الديسمبريين" وهو الحراك الأهم في تاريخ روسيا ما قبل الثورة البلشفية والذي تردد صداه في الأدب والثقافة، وخلق العديد من المناصرين من الكتاب والأدباء حتى من أبناء طبقة الإقطاعيين نفسها. وبإنتهائه تفتحت الأعين على واقع ظروفهم الاجتماعية العصيبة وضرورة الانغماس فيها لحلها، ومن هنا بدأ الاتجاه الواقعي في الأدب.

قاد الانعطاف إلى الأدب الواقعي ثلاثة من أهم أدباء روسيا هم بوشكين وليرمنتوف وغوغول، واهتم كل واحدٍ منهم بتصوير مجتمعه كما هو بآلامه ومشاكله، ودمج أفكار التحرر والثورة في طموحات شخصياته، بل وحتى تحرير اللغة الأدبية من زخرفة الأرستقراطية الفارغة وإدخال اللغة الشعبية في متن الحوار لتصبح أقرب إلى جموع المثقفين منها إلى النخبة. من هذا السياق خرج بوشكين شاعر روسيا الأول وروحها الجديدة والذي عانى الأمرين من اضطهاد القيصرية حتى تآمرت لقتله، ليقدم لنا واحدة من أروع الأعمال الأدبية "يفغيني أونيجن" وهي رواية شعرية لها خط سرد رئيسي عن قصة رومانسية بين ممثلين للطبقة الأرستقراطية، يستعرض خلالها بوشكين ترف هذة الطبقة وخمولها وزيادتها عن الحاجة ويستعرض في خلفية الخط السردي طبيعة القرية والفلاحين وتردي واقعهم المادي القاسي، ليوضح التناقض بين أسلوبي الحياة، حياة الترف والدعة والخمول وفي نفس الوقت الأخلاق المحافظة الفاقدة لروحها والسائدة بين الطبقة الأرستقراطية. ومن الجهة الأخرى حياة القسوة والفقر والتردي التي يعيشها أغلب فئات الشعب، وعليها تنتهي القصة بمأساة البطل الممزق بين أخلاق طبقته وواقع مجتمعه كتمثيل لنهاية حلم الديسمبريين.

أما ليرمنتوف صديق بوشكين وتلميذه فقد سار في الدرب نفسه، وقدم عدداً من الأعمال الأدبية الواقعية أهمها بلا منازع "بطل من هذا الزمان"، وهي الرواية التي جاءت اسماً على مسمى لتمثل جيل الشباب في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات بعد انكسار حركة الديسمبريين، فالبطل الأساسي للخط السردي الممتد على مدار خمسة أجزاء متفرقة يُعاني كثيراً من التناقض بين أفكاره عن الحرية وواقعه المُتهدم، والذي يصيبه بفقدان الهدف والتسكع بلا تحقيق فائدة لنفسه أو للآخرين فيبدد طاقته ورغبته التحررية هباءً. ويستسلم في النهاية لنزواته ورغباته، وعلى هذه التيمة قدم ليرمنتوف عدداً من الأعمال الأخرى لتجسيد حياة "الإنسان الزائد" وهو الشخصية ذات العقلية المتفتحة الموهوبة والغريب في ذات الوقت على طبقته وبيئته الاجتماعية الأوسع.

وفي الأربعينيات من القرن نفسه وعلى إثر هزيمة الديسمبريين واستمرار مسلسل القمع والنفي، ساد ما يُعرف بعصر "الرجعية" والذي تشددت فيه إجراءات القيصرية في اضطهاد الفلاحين والمثقفين، ظهر "نيكولاي غوغول" وهو أحد أهم الأدباء الذين نقلوا الرواية الواقعية إلى مساحات أكثر جذرية على مستوى اللغة الشعبية، والشخصيات الجذرية، وتمثيل الاحتقار المهيمن داخل المجتمع من كل الفئات على الفئات الأخرى وعلى ذاتها أيضاً.

ففي واحدة من أشهر رواياته "الأرواح الميتة" يقدم غوغول قصة صادمة للجميع، فهي تحكي عن إقطاعي (تشيشكوف) الذي قرأ بالصدفة، بأنه يمكنه أن يستبدل عقود تمليك أرواح الفلاحين الموتى بقرض من مجلس وصاية المدينة، ليبدأ في رحلة محمومة لخمسة من الإقطاعيين الروس لأجل شراء صكوك ملكيتهم لفلاحيهم الموتى، ويتعرض لكل شخصية ويحاول أن يتعامل مع قبحها وبخلها من أجل الحصول على صكوك استعباد الفلاحين الذين استنفذهم السادة في الوظائف بالسخرة، تغوص الرواية في عالم الموظفين البيروقراطيين الممتلئين بالفساد والتعسف، والمدينة القائمة على الاستبداد من قبل سلطة المحافظ القيصرية، وطابع التراخي والتفاهة داخل هيكل الدولة، وزيف حياة مجتمع الإقطاعيين وبخلهم، وعلى الرغم من أن القصة صادمة ولا يمكن لخطها الأساسي أن يكون حقيقياً إلا أنها حدثت بالفعل في تلك الفترة وأوحى بها بوشكين لغوغول.

بدخول الخمسينيات والستينيات بدأ عدد كبير من الشباب الروسي في الإقبال على الأدب والانفتاح على الأفكار الثورية الاشتراكية، ليتم إعلان ميلاد جيل جديد من الأدباء والثوريين جاء على وقع انهيار الجيل القديم من ميراث الليبراليين الديسمبريين، وأهم من مثل هذه الفترة بالتحديد هما تورغينيف وتشرنشفسكي.

فعلى الرغم من الأصل النبيل لتورغينيف إلا أنه كان يرى ضرورة انهيار طبقته، وانتقال لواء الفكر والتقدم إلى الجيل الجديد من قيادات الفكر الديمقراطي الثوري من أبناء الطبقة المتوسطة في روسيا، وفي واحدة من أهم أعماله "الآباء والأبناء" والتي كُتبت عشية إلغاء القنانة في روسيا 1861، وفيها وضع تورغينيف الجيلين في مواجهة أحدهما الآخر؛ جيل النبلاء الليبراليين الذين يسعون للتغيير من أعلى المنظومة بعد انغلاق أفق الحل الثوري، وجيل طليعي جديد من الثوار الديموقراطيين الساعين لحل جذري يقوم به الفلاحون والطبقات الشعبية من أسفل الهرم الاجتماعي، فمن خلال الخط الرئيسي للرواية والذي وضع فيه الآباء في مواجهة شابين هما "بازاروف" و"أركادي" يقدم تورغينيف نقداً عنيفاً لأخلاق النبلاء وعاداتهم الفارغة وأفكارهم المثالية المنعزلة عن الشعب، ويقدم أيضاً نقداً لأفكار الجيل الجديد من الثوريين بوصفهم "عدميين" وهي المرة الأولى التي يظهر فيها هذا الوصف والتشخيص الفكري في الأدب، فلفقدانهم بوصلة الأخلاق والتخطيط اللازم لاستدعاء أفكارهم في الواقع يتخبطون طوال الوقت.

على الجانب الآخر قدم نيكولاي تشرنشفسكي وهو أديب روسي من أبناء جيل الديسمبريين، واحداً من أهم الأعمال الأدبية والثورية في القرن على الإطلاق باسم "ما العمل؟" ويدعو فيها لأهم الأفكار الاشتراكية التحررية، وهي الرواية التي أصبحت بمثابة الكتاب المقدس لكل الحركات الديمقراطية فيما بعد حتى فترة الثورة البلشفية، للدرجة التي ألهمت فلاديمير لينين بتسمية أهم كتبه على نفس اسم الرواية "ما العمل؟ السؤال المؤسس لحركتنا"، وهي التي كتبت رداً على رواية تورغينيف "الآباء والأبناء" لمحاولة توضيح الإمكانيات المتاحة أمام الشباب الثوري في هذا الوقت لانتشالهم من الحالة العدمية.

الجيل الثالث من الأدباء والثوريين: جيل الرؤية الشاملة

في الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ وهي فترة تطور الرأسمالية الروسية وهي نفسها فترة تطور الحركة الثورية وتجميع الحركات الثورية الأناركية لاستهداف القياصرة بشكل عنيف من ناحية، ومن ناحية أخرى لأجل تنظيم حزب ثوري يجمع العمال في المدن لأجل القيام بثورة على الظروف القائمة.

من هذا الجيل خرج عدد كبير من الأدباء الروس الذين نعرفهم جميعاً أمثال ديستويفسكي وتشيخوف وليو تولستوي ومكسيم غوركي، تميّز هذا الجيل في رؤيته الشاملة لكل ما يحدث حوله من الصراع الطبقي بين الفلاحين والنبلاء من ناحية وبين أخلاق الجيل القديم والجديد، صراع بين الأيديولوجيات التي بدأت في الظهور على الساحة وحتى التحليل النفسي لأبطال الصراع ومحركيه وفيه بنفس الوقت تطلعاتهم الإنسانية، مشاعر الأخوة والضمير.

فديستويفسكي على سبيل المثال وهو أحد أهم أئمة الأدب الروسي وأهم ممثلي الجيل الثالث، قد وقع هو نفسه تحت تأثير الأفكار الثورية والتي أدت للحكم عليه بالإعدام ثم تخفيف الحكم في اللحظة الأخيرة، وخلال عدد من الروايات حاول ديستويفسكي توضيح الصراع الداخلي بين الشخصيات الراديكالية ذات الأيديولوجيات الثورية العنيفة وبين الطبيعة الأخرى للدين المؤدية للخنوع والاستسلام للوضع القائم. فقدم ديستويفسكي "مذلون مهانون" (1861)، "الجريمة والعقاب" (1866)، "الأبله (1869)، "الشياطين" (1872)، "المراهق" (1875)، "الأخوة كارامازوف (1880) وعلى امتداد هذة الأعمال يحاول ديستوفسكي إظهار التناقضات بين الواقع والأفكار، بين الشخصيات وبعضها البعض، بشكلٍ ألهم جميع مثقفي الفترة لمحاولة تبيان مسار حركتهم ومحاولة الإجابة على السؤال المهم "ما العمل؟".