بني الغالي، لقد منعني عن كتابة هذه الرسالة لك طول الفترة الماضية، كثرة الأمور التي كانت وما زالت تَشغلُ فكري، وتزاحمها المزعج على أعتاب وجداني. بعضاً من تلك الأمور هي أحداث حدثتك عن بعضٍ منها مطلع إحدى رسائلي السابقة لك.
لكن اليوم بات فكري محموماً وأنا أتابع بشغف بالغ أخبار الأحداث الجديدة والمتسارعة التي تحدث اليوم في كل من الجزائر والسودان والعراق ولبنان، ولا أنسَ الخطوة الهائلة التي خطتها تونس أخيراً صوب الديمقراطية وتمكين الشعب، حين انتخب التونسيون بحرية وشفافية كبيرتين رئيساً قَلَبَ كل موازين الحكم والحسابات التي سادت هناك لعقود.
هل تعتقد مثلي أن الفتنة التي أُشعلت في أوطاننا خلال السنوات العشر الماضية بدأت تحتضر، تماماً كما بدأت تحتضر معها تلك الأنظمة العميقة التي أدخلتنا في عصور مظلمة كعصور أوروبا المظلمة التي انتهت منذ قرون؟
لقد وضعتُ عنوان لهذه المرحلة، نعم هي مرحلة يا عزيزي، مرحلة جديدة تمر بها الأمة قاطبة، عنوانها هو مرحلة "اللا عودة".
لقد تراكم لدى الشعوب العربية وعي كافٍ منذ الربيع الأول وبدأت شعوبنا تعلم ماهية الأنظمة التي تحكمها وحكمتها على مدى العقود الطويلة الماضية. وأخبرك أن الشعوب لن تتراجع هذه المرة قبل أن تغير ملامح المنطقة السياسية والاقتصادية بالكامل وإلى الأبد.
بني الحبيب، سنتحدث بشيء من التفصيل حول تلك الأحداث في أزمنة قادمة، لكن دعني أخبرك أن هناك تكلفة باهظة جداً سندفعها نحن الشعوب العربية المقهورة ثمناً لهذا التغيير الذي سنحصل عليه لا محالة نهاية المطاف. في الواقع هذا هو ديدن تاريخ شعوب الأرض التي عانت طويلاً داخل أتون الظلم والطغيان كما تعلم. ورغم ذلك تغمرني سعادة كبيرة حين أرى نفسي شاهدة على كل ذلك منذ البداية، وأرجو أن يُطيل الله في عمري كثيراً حتى أشهد تلك النهاية المرجوة.
أريد منكما أبنائي الحبيبان أن تستعدا جيداً لهذه المرحلة التي سيذكرها التاريخ بكل تفاصيلها ودقائقها، وأنا أعلم تماماً أنكما ستكونان اسمين لامعين خلال تلك سطور التاريخ العظيمة التي ستخلد تلك الأحداث.
لَكم أحببتُ أن أحجز لنفسي مكانا هناك بين تلك السطور، غير أنني مرتاحٌ الآن كون مكانيكما محجوزان، وأنتما بالذات كونكما ابنين من أبنائي.
سنتكلم الآن عن موضوعنا الدائم وسأخبرك بما هو غريب، لقد كان آخر لقاء بيننا سعيداً ومبهجاً جداً بالنسبة لي، على عكسك تماماً. لن تعلم بني الغالي كم كنتُ سعيداً إثر ذاك اللقاء الأخير، وإحساس متضارب شعرتُ به أيضاً سأخبرك عنه تالياً، لقد كان ذلك حين طلب منا الموظف العمومي في ذاك المكان البائس أن ندخل كلينا إلى الغرفة الفارغة من أجل أن نتحدث بحرية بعيداً عن مسامع الجلوس في فسحة الانتظار الوسطية تلك. يا إلهي كم تفاجأتُ بنبرة صوتك وتغيُّر درجتها الذي بدا لي كبيراً حين ردَدتَ أنت على الموظف وقلت: أنا مرتاح هنا.
أنت تعلم بني الحبيب أنني لم أستمع إلى صوتك وأنت تتكلم لشهور وشهور طويلة جداً ومنذ زمن بعيد رغم لقائنا المتجدد، كان آخر عهدي بسماع صوتك عندما كان طفولي النبرة وأيام كانت درجته رقيقة للغاية، ذاك الصوت الذي ما زال يدندن حول حنايا خاطري إلى اللحظة.
بني الحبيب، الأمر الغريب عندما أصبح شعوري متضارباً بعض الشيء، حين شعرتُ بعَبْرةِ حزنٍ عميقةٍ وأنا والدك الذي تفاجأ للتو بصوتك تتكلم، ثم اندهش حين وقع على مسامعه.
تحياتي الحارة لك ولأخيك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.