لا يمكن أن تزور المقر الخاص بجماعة الإخوان المسلمين-مجموعة المكتب العام (أو من يُعرفون بمجموعة محمد كمال) في إسطنبول دون أن يلفت انتباهك هذا الجدار، ليس فقط لأن الجدار يحمل عدداً كبيراً من صور الرموز السياسية والفكرية، لأن هذه مسألة معتادة نسبياً في مقرات الإخوان المسلمين، بل في المكاتب الخاصة لبعض قياداتها، وإنما لأن هذه الصور تجمع مزيجاً عجيباً من الشخصيات بشكل صادم في الحقيقة.
لكن قبل الحديث عن الجدار والصور، هناك السياق والخلفيات، فهذه المجموعة أو امتداداتها كانت هي المسؤولة عن إدارة الجماعة خلال الأعوام الثلاثة العاصفة التي تلت الانقلاب في مصر، وكانت هي المجموعة التي تبنَّت خيار الصدام العنيف مع نظام ما بعد الانقلاب ضمن خطة سُميت "خطة الإنهاك والإرباك"، والتي تعني خوض معركة استنزاف طويلة مع هذا النظام -وفي القلب منه الأجهزة الأمنية- حتى تجبره على التراجع، أو على الأقل تجعله يدفع ثمن الجرائم التي ارتكبها في حق أعضاء الجماعة ومناصريها، لكن هذه المجموعة تعرضت لضربات أمنية موجعة من جهة، كما أن القيادات التقليدية سرعان ما أطاحت بهذه القيادة الجديدة وأعادت السيطرة على الجماعة من جهة أخرى، لتصبح هذه المجموعة مشتَّتة ومنعزلة عن الجماعة وقواعدها بشكل شبه كامل.
هذه التجربة العنيفة من الصدام مع نظام شديد القمع ومع قيادات الجماعة التقليدية وأعرافها المحافظة في آن واحد، تركت طابعها على من لقيتهم من شباب هذه المجموعة، فروح الثورة والتمرد ما زالت حاضرةً في نقاشاتهم وأفكارهم، لكن في الوقت ذاته، فإن حالة التشويش والبحث الدؤوب -أو ربما اليائس- عن حلٍ ما كانت حاضرة أيضاً، ولا أدل على ذلك من جدار الصور الذي أشرت إليه سابقاً.
ما الذي يجمع تشي جيفارا وعبدالله عزام؟! أو غاندي والقائد الجهادي الشيشاني خطاب؟! هل هناك وجه شَبه ما بين راشيل كوري -الناشطة الأمريكية التي ماتت في أثناء مقاومتها للأنشطة الاستيطانية بفلسطين المحتلة- وأسماء البلتاجي؟! وماذا تفعل صورة القس الأمريكي مارتن لوثر -الذي ناضل من أجل الحقوق المدنية للسود في أمريكا- مع صورة متخيَّلة لسلطان العلماء العز بن عبد السلام؟! أليست هذه صورة الملاكم محمد علي كلاي؟!
عشرات الأسئلة تقفز في الذهن حين تفاجئك هذه المجموعة العجيبة من الصور، ولا يمكنك أن تتوقف عن محاولة البحث عن شيء ناظم يجمعها، أو عن الرسالة التي تحرص هذه المجموعة على إرسالها. وبعد محاولات عدة، تصل إلى حقيقة أكيدة أن هذه الصور لا يمكن أن يجمع بينها رابط ما، فهي ليست بالتأكيد مجموعة صور لبعض المفكرين والقادة الإسلاميين كما جرت العادة في بعض مقرات الجماعة، وإذا كان الرابط المحتمل هو الثورة، فإن مالك بن نبي -على سبيل المثال- برؤيته الإصلاحية وسعيه للنهوض الحضاري؛ أو حتى الصحفي المغدور جمال خاشقجي -رحمه الله- لا ينتميان إلى هذه المجموعة، وإذا كان الرابط المحتمل هو السعي للتغيير بمعناه الواسع الثوري والإصلاحي، فإن شخصية الطفل محمد الدرة أو الملاكم محمد علي كلاي لا تتضمن هذا المعنى.
لكن، من جانب آخر، فإن اختيار هذه الصور لا يبدو عشوائياً، بل كان فيه حرصٌ على أن يُبرز بعض النماذج الملهمة التي لها رمزيات مختلفة، بدءاً بصور الرموز الإخوانية التقليدية، مثل حسن البنا، وسيد قطب، وزينب الغزالي، والمرشدَين محمد مهدي عاكف ومحمد بديع، والرئيس الراحل محمد مرسي، والقيادي الرمز لهذه المجموعة محمد كمال، مروراً برموز العمل الجهادي، كعبدالله عزام، وخطاب، وعز الدين القسام، وياسين، والرنتيسي، وعمر المختار؛ أو الثوري المسلح، كجيفارا؛ أو النضال غير العنيف، كغاندي، ومارتن لوثر، وفي وقت متأخرٍ نيلسون مانديلا؛ أو ضحايا الاحتجاجات المدنية، كراشيل كوري، وأسماء البلتاجي، وهالة أبو شعيشع؛ أو حتى التمرد ضد النظام المصري، خصوصاً في علاقته مع إسرائيل، كالمجند سليمان خاطر، الذي نفَّذ عملية ضد الجنود الصهاينة ليحاكَم بعدها عسكرياً، ثم يُعثر عليه مقتولاً/منتحراً في زنزانته، وصولاً إلى الفقهاء الداعمين للإصلاح والمشهورين بمعارضتهم للنظم القائمة، مثل الشيخ القرضاوي، وسلمان العودة.
هذه الرسائل المقصودة والمختارة -على ما يبدو- بعناية لا تُخفي كمَّ الارتباك في تشكيلة هذه المجموعة، فأولاً، يبدو أن هناك شخصيات ما زالت رمزية اختيارها غير واضحة تماماً، كما أن هذه الاختيارات تتجاهل الرسائل المتعارضة التي تمثلها هذه الرموز، فمارتن لوثر أو غاندي كلاهما كان معارضاً شرساً للعمل المسلح، في حين كان عبدالله عزام الداعيةَ الأهمَّ للجهاد المسلح في الحركات الإسلامية المعاصرة، والمدرسة الإصلاحية الحضارية التي ينتمي إليها ودعا إليها مالك بن نبي كانت محل انتقاد عنيف من سيد قطب، وراشيل كوري منهجها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي يختلف بشكل جذري عن منهج خنساء فلسطين أم نضال، وعلى الأغلب لن يكون المرشد العام للإخوان المسلمين محمد بديع مسروراً بوجود صورة تشي جيفارا معلَّقة على جدار أحد مقرات الجماعة.
وبالمحصلة، فإن هذا الجدار تجسيد بالغ لحالة واضحة من التخبُّط، يمر بها شباب الثورات العربية عامة، وليس فقط هذه المجموعة من شباب الإخوان، فهو يحاول أن يرسل رسائل إيجابية، لكن بشكل مرتبك، ويؤكد الانفتاح الأيديولوجي والحضاري بتضمين صوره رموزاً غير مصرية وغير إخوانية، بل غير مسلمة، وبحرصه على وجود صور لمناضلات إسلاميات وأجنبيات، لكنه في الوقت نفسه يُظهر تشويشاً وارتباكاً فيما يتعلق بالرؤى والقناعات، هل الطريق هو الإصلاح الفكري، أم النضال المدني، أم الثورة المسلحة؟! صحيح قد تكون الرسالة الأبرز لصور هذا الجدار هي الاحتفاء بالتمرد والثورة والنضال، لكنها خرجت في النهاية كلوحة سيريالية تفتقد الترابط وتحمل كثيراً من معاني الحيرة والتيه وربما الألم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.