عاد الإسلاميون والحداثيون في المغرب من جديد إلى التراشق وتحميل المسؤولية وإلقاء اللائمة على عاتق بعضهم البعض حول مختلف القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان، وتحديداً حول مسألة الحريات الفردية.
وتفجرت هذه القضية وبرزت على السطح مباشرة بعد اعتقال السيدة هاجر الريسوني، ابنة أخ أحمد الريسوني، رئيس اتحاد علماء المسلمين، والرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية الإسلامي أحد أكبر مكونات الحكومة المغربية الحالية، بتهمتي "الإجهاض غير القانوني وممارسة الجنس خارج إطار الزواج"، قبل أن تحصل منذ أسابيع قليلة على عفو ملكي، والتي عبرت بعدها عن رفضها للموقف، الذي عبر عنه عمها أحمد الريسوني، حول موضوع الحريات الفردية، وقالت في تدوينة بـ "فيسبوك": "هي المواقف التي يعرف الجميع أنني أخالفه فيها الرأي"، معلنةً تضامنها مع كل امرأة تعرضت لعنف رمزي، "سواء صدر عن أحمد الريسوني أو غيره"، في إشارة إلى عبارة "ولقد رأينا مؤخراً بعض النسوة الخاسرات يرفعن لافتات تُصرح بأنهن يمارسن الجنس الحرام ويرتكبن الإجهاض الحرام. هكذا لقَّنوهن.. مع أن الظاهر من سوء حالهن أنهن لن يجدن إلى الجنس سبيلاً، لا حلاله ولا حرامه"، والتي أدرجها أحمد الريسوني، "العالِم المقاصدي" كما يحب أن يناديه أنصاره، في مقالة نشرها مباشرة بعد صدور العفو الملكي، تحت عنوان "أنا مع الحريات الفردية"، وهو ما جرَّ عليه موجة غضب عارمة من قِبل أنصار الحريات الفردية.
وليست هذه هي المرَّة الأولى التي تثار فيها هذه القضية، فقد سبق أن احتدم النقاش حولها بمناسبة تعديل القانون الجنائي، وتحديداً عندما أحالت الحكومة إلى البرلمان، في يونيو/حزيران 2016، مشروع قانون حول الإجهاض، ينص على "إتاحة الحق في الإجهاض للمرأة في حالات الحمل الناتج عن اغتصاب أو زنا المحارم، والحالات التي تكون فيها الحامل مصابة بمرض من الأمراض المعتبرة في حكم الخلل العقلي، وحالات ثبوت إصابة الجنين بأمراض جينية حادة أو تشوهات خلقية خطيرة غير قابلة للعلاج وقت التشخيص، وعندما يشكِّل الحمل خطراً على حياة الأم أو على صحتها"، وتعالت الأصوات حينها مُطالِبةً بضرورة حذف المواد القانونية التي تحول دون تنزيل هذه الحريات على أرض الواقع.
وإذا كان المدافعون عن هذه الحريات يرون أنها صمام الأمان ودرع حماية لجميع أفراد المجتمع، خاصة من يعيش منهم في أوضاع هشة، مشيرين إلى أن شيوخ وفقهاء الهوس الجنسي من الإسلاميين ومَن والاهم لا يرون في الأنثى إلا جسداً للمتعة، لا تخضع الاستفادة منه لأي سن أو قرار من الفتاة، بل ولي أمرها يقرر نيابة عنها، مبينين أن مفهوم هؤلاء للحريات يناقض المفهوم المتعارف عليه دولياً والذي تقره كل الحكومات والدول الديمقراطية في العالم.
فإنَّ الرافضين للحريات الفردية من الإسلاميين بمختلف انتماءاتهم وتموقعاتهم، يرون أن هذه الحريات تمثل رخصة ودعوة صريحة لاقتراف الرذيلة، التي حرمها النص الشرعي، موضحين أن مناصري الحريات الفردية حصروها في بعض الممارسات الشاذة والأفعال الساقطة، كالزنا والشذوذ الجنسي والخيانة الزوجية. بمعنى أن حرياتهم الفردية، وحملاتهم المسعورة لأجلها، تنحصر في محرمات الفرج والدبر.
وأكد آخرون ممن يرفضون هذه الحريات أن هناك صنفين منها: "الحريات الفردية بصفتها حقاً دستورياً، يجب ترسيخه في القانون، والمجتمع؛ والحريات الإباحية، التي تعني التطبيع مع أنواع من السلوك، تشتمل على كثير من الأضرار، مثل: إباحة الزنا، والخيانة الزوجية، وإباحة الشذوذ الجنسي، والإجهاض، معتبرين أن ما سمَّوه "الدعوات الخارجة عن القانون، والشاذة عن الأخلاق العامة للمغاربة"، "خطر يزيد من معاناة الفرد، وتفكُّك الأُسر"، و "لا تعبر عن احتياجات المجتمع، بقدر ما تخدم أجندات تُفرض على الشعوب، في سياق عولمة متوحشة إمبريالية، لا تحترم الشرائع الإلهية، والخصوصيات الوطنية، والقومية".
إن مربط الفرس في هذه القضية هو طريقة تعاطي كل طرف مع هذه الحريات، فالطرف الأول أسس نظريته على المقاربة الحقوقية القانونية، التي تنهل من المنظومة الحقوقية الكونية كما سنَّها وصدَّق عليها المنتظم الدولي في إطار قاعدة "حقوق الإنسان كلٌّ لا يتجزأ"، والثاني اعتمد المقاربة الدينية الشرعية الميكانيكية، التي لا تتفاعل مع الواقع ومع نبض الشارع، ومعلوم لدى عموم الفقهاء، القدماء منهم أو المعاصرين، أن معرفة الواقع والإلمام به شرط من شروط الاجتهاد في الإسلام، ولذلك تجد بعض الإسلاميين يسقطون الواحد تلو الآخر، إما في نقيض ما يقولون والأمثلة على ذلك يعرفها القاصي والداني، أو يستمتعون بحق كانوا أول من عارضه ووقف ضده، حالة عدد من القياديات في حزب العدالة والتنمية المغربي اللواتي استفدن من التطليق للشقاق رغم مناهضتهن لمشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، عندما خرجن خلال عام 2000 في مسيرة مليونية، ليستنكرن ويشجبن هذا الحق، الذي سيمكنهن فيما بعد من بلوغ الحرية وفرض اختياراتهن في الحياة.
ثم إن هؤلاء الإسلاميين وهم يستنبطون الأحكام من النصوص الشرعية، تجدهم يحرّكون هذه العملية في حالة تورط خصومهم أو أشخاص من خارج تنظيمهم في ورطة ما، مستخدمين في ذلك كلَّ ما أُوتوا من جهد وأدوات لصبِّ جام غضبهم عليهم، ويتراجعون عن تحريك هذه العملية إذا ما كان المتورِّط من أهاليهم أو أتباعهم، كما لو أن الأحكام الشرعية تخص فقط غير الموالين لهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الدين في عرف هؤلاء عبارة عن أصل تجاري يأخذون منه فقط ما يخدم مصالحهم وأهواءهم، ويتركون ما دون ذلك.
إن البحث عن الحلول لمثل هذه القضية أو لغيرها من القضايا، لا يتأتى من منطلق الغل والحقد وتصفية الحسابات عبر تكريس أساليب الغمز والهمز واللمز، أو من منطلق قول أحدهم: "نخوض في عِرض وشرف فلان، لأنه ينتقدنا ويتهجم على تنظيمنا، وما إلى ذلك من الترهات"، وإنما يتأتى من منطلق التجرد من كل الشوائب والأهواء وإخلاص والنيات وإصلاح السرائر، وهذه أوصاف لا يمكنها أن تتجلى إلا للعلماء العاملين العارفين المتمكنين، ممن يمتلكون آليات التحليل والاجتهاد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.