عندما نتساءل عن ماهية الدولة الحديثة ودورها والعقد الاجتماعي ومسؤوليات الحاكم والمحكوم والواجبات والحقوق المدنية المترتبة على السلطة الحاكمة والمواطنين، نجد أن الدولة الحديثة لها مهمات محددة يجب أن تقوم بها، فوظيفتها حماية وتقديس الحرية الفردية، وحماية الأفراد، وبناء دولة قوية تقوم على العدل وسيادة القانون. فأي حكومة ينبغي أن تقوم بالمهام الرئيسية مثل التعليم والصحة، ويعتبر الاستثمار في رأس المال البشري من أكثر هذه المَهمات أهميةً لأي حكومة تسعى لتحقيق التنمية بمفهومها الشامل. كذلك من المهام الأساسية لأي حكومة الاهتمام الشديد بالبنية التحتية والأمن الداخلي وحماية الحدود، وأيضاً عمل التشريعات التي تشجع الاستثمارات، وكذلك ضمان وجود منظومة قضاء عادل مستقل.
دعونا ننظر إلى القاهرة، وهي من أقدم العواصم التاريخية. وقد تحولت في 90 دقيقة من الأمطار إلى مستنقع مميت، يقضي فيه19 مصرياً نحبهم، وتتعطل المدارس والجامعات والشركات، وتغرق مبانٍ أثرية عريقة، وتخسر الدولة والمواطنون مئات الملايين، وذلك بسبب عدم وجود شبكة تصريف لمياه الأمطار. وبدلاً من تنكيس العَلم وإقامة الحداد الوطني وتقديم الحكومة اعتذاراً رسمياً، فوجئنا ببيان المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء يبرر هذا الفشل بعدم استطاعة الدولة إنفاق 300 مليار جنيه لتطوير شبكة صرف مياه الأمطار في القاهرة وحدها، وهذا رقم لا يستند إلى دراسة علمية.
طبقاً لدراسات المكاتب الاستشارية المتخصصة، فإن تطوير شبكة تصريف مياه الأمطار في جميع أنحاء مصر يكلف ما يقارب 95 مليار جنيه، أي ما يعادل 5.8 مليار دولار، وهذا الرقم يمثل أقل من نصف تكلفة حفر تفريعة قناة السويس عديمة الجدوى، ويمثل الرقم نفسه أقل من 1% من تكلفة العاصمة الجديدة التي يروج لها النظام الحالي. إن تكلفة إنشاء شبكة تصريف مياه الأمطار في القاهرة الكبرى فقط تعادل 10 مليارات جنيه، وهو ما يعادل 620 مليون دولار (جزء من تكلفة بعض الاستراحات والقصور).
القاهرة مدينة مهمة في تقدير اليونيسكو مثلها مثل روما وأثينا ولندن وباريس من الناحية التاريخية والأثرية، ومصر بها أكثر من ثلث آثار العالم، والقاهرة عاصمة مصر التراثية التي تحوي تاريخاً وآثاراً لا تقدَّر بثمن، وبوابة مصر للعالم، وتحديث بنيتها التحتية يعتبر أحد أهم المشروعات القومية التي ينبغي أن تتضافر من أجلها جهود الأمة المصرية بأَسرها، حتى تكون مصر في مكانتها الطبيعية، وأمن وأمان مواطنيها وحياتهم أولوية قصوى.
إن تشجيع الاستثمارات الخارجية يتطلب بنية تحتية قوية وتطوير وتحديث شبكات الصرف والسكك الحديدية والمرافق العامة، وليس بناء عواصم ومدن جديدة أو توسيعات وتفريعات لممرات مائية عديمة الجدوى الاقتصادية.
إنَّ تقدُّم الأمم يقاس بارتفاع مستوى التعليم وجودة الخدمات الصحية وتناقص نسبة الفقر؛ ولذلك نجد الدول الاسكندنافية لديها نظم تعليم ورعاية صحية متقدمة ومجانية للجميع، ولكن أولويات النظام المصري الحالي بناء عاصمة جديدة بها أطول برج وأكبر جامع وأكبر كنيسة، لكي تقيم فيها الصفوة المختارة، فمن المستغرب وجود ملايين من المصريين يتضورون جوعاً (نسبة الفقراء طبقاً لتقرير البنك الدولي 58% أو أكثر من 60 مليون مصري، ومن هم تحت خط الفقر المدقع 6%، أي أكثر من ستة ملايين مصري)، ويأكلون من حاويات القمامة ويسكنون في مساكن غير آدمية.
ففي حادثة القطار الأخيرة تبوأت مصر مكانة بائسة بأغلى سعر تذكرة قطار في التاريخ، وقد فقد أحد المواطنين حياته تحت عجلات القطار، وذلك لعدم قدرته على دفع 4 دولارات قيمة تذكرة قطار، في عصر تقوم فيه مؤسسة الرئاسة بشراء طائرات رئاسية بأكثر من 350 مليون يورو، أي ما يعادل 7 مليارات جنيه والذي يقارب تكلفة مشروع ميكنة مزلقانات السكك الحديدية، الضرورية لإيقاف حوادث القطارات التي تتبوأ مصر فيها المركز الأول عالمياً حالياً، ويموت العشرات كل عام بسببها، ونقارن ذلك برئيس الأوروغواي خوزيه موخيكا، الذي فتح القصر الرئاسي في العاصمة مونتفيديو للمشردين ولمن هم بلا مأوى، وقد استغنى عن قصر الرئاسة وسكن في بيته المتواضع الذي كان يقطن به قبل أن يصبح رئيساً، ولا يزال يركب سيارته القديمة موديل 1987، وأيضاً نرى رئيسة مالاوي تبيع طائرة الرئاسة للإنفاق على التعليم وعلى أطفال مالاوي الفقراء.
هذه المقارنة باختصارٍ هي الفارق بين الديمقراطية التشاركية من ناحية والديكتاتورية العسكرية من ناحية أخرى.
المصادر:
معادلات تصميم الري والهيدروليكا، حسام الدين أحمد رفعت، (الهندسة الصحية) كلية الهندسة، جامعة القاهرة.
الهيدروليكا، محسن عبد الرحمن الجنابي، دار الراتب الجامعية، بيروت.
الهيدرولوجيا عباس عبدالله إبراهيم؛ وعصام محمد عبدالماجد أحمد، الهيدرولوجيا، الطبعة الأولى، الخرطوم.
تقدير تكلفة الكيلومتر طولي من قنوات التصريف شاملة جميع البنود، ياسر الزيني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.