كثيرة مشاهد القتل والخطف والاغتصاب في المسلسلات التركية
في مسلسل Hercai مثلاً يأتي الموسم الثاني ليستكمل عشرات المشاهد التي تتعرض فيها البطلة Ebru Sahin التي تمثل شخصية Reyyan للصفع على الوجه، والسحب بعنف من ذراعها، والتهديد بالقتل وتصويب المسدس إلى رأسها، ومنها مشهد تبكي فيه أمام الجد الذي أوعز بقتلها عدة مرات تقول له: "أتساءل منذ صغري لماذا يكرهني جدي؟".. ومشهد الإلقاء بها بفستان الزفاف في ميدان عام بعد الليلة الأولى، وهو أمر في العرف المحلي يشبه الحكم بالإعدام رجماً.. ساعات طويلة من العرض Reyyan مفعول بها مقهورة لا تلقى سوى الصفع والتعنيف والترويع والتهديد بالقتل ولا يصدر منها سوى البكاء والصراخ.
تناقلت إحدى الدراسات مشاهد العنف ضد المرأة في المسلسلات التركية، لتأتي الأرقام صادمة.. منها تعداد مشاهد العنف اللفظي والمعنوي.. الصراخ.. العنف النفسي.. التهديد بالعقاب أو الموت، الاغتصاب، وغيرها التي ترسخ فكرة "ضعف" المرأة وقابليتها للقهر مادياً ومعنوياً.
مثلاً، في الموسم الأول من ثمانية مسلسلات هذا العام رصدت دراسة 300 مشهد على الأقل لرفع السلاح وإطلاق النار أو التحدث عن القتل بالرصاص.
أما بخصوص المرأة، فرصدت الدراسة 67 مشهداً لبكاء وعويل المرأة، و122 مشهداً لتهديد المرأة منها 33 مشهداً شملت ذكر القتل، و11 مشهد تهديد بالقتل، و78 مشهداً شملت أحاديث عن العقاب بالموت.
وتظهر سيناريوهات تلك الثمانية الأعمال مقتل/موت 33 شخصية من أبطالها، وتكررت آلية التمويه بالكاميرا أكثر من 64 مرة، ومن بين 14 مشهداً لقهر المرأة والعنف الجنسي، يأتي 12 مشهداً في مسلسل واحد منها فقط.
أما في الواقع، فلم يمر وقت طويل على صدم الرأي العام في تركيا بواقعة طليق ذبح رجل لزوجته السابقة "أمينة بولوت" وأم ابنته أمام أعين طفلتهما التي تبلغ عشر سنوات من عمرها.. وفي وضح النهار، قائلاً إنها استفزته.
في العام الماضي فقط، وقعت أعلى نسب قتل المرأة في تركيا في محافظة إسطنبول فقط، وقتلت 281 امرأة مقارنة بـ 301 امرأة في عام 2016. وتشير منظمات حقوقية أنه في يوليو/تموز الماضي فقط قتلت 31 امرأة في إسطنبول وحدها و245 سيدة في السبع أشهر الأولى من 2019.
هذه الوحشية لا تأتي من الفراغ، بل تأتي من عشرات ومئات مشاهد القتل والاغتصاب والخنق والذبح بحق النساء في مسلسلات تذاع ويراها الملايين، يعرف بها المشاهدون أقل تفاصيل القتل وأدواته جميعاً.. يعرفون كل الملابسات المفضية لقتل من يكرهون.. وكل الدوافع والأدوات والكلمات الممكنة وغير الممكنة، تبررها لهم تلك المسلسلات بمنطق: "هذا يحصل في كل مكان وكل وقت".
"طبعنة" العنف، أو ما يعرف بـ normalization of violence الناتجة عن هذه المسلسلات.. لها تبعات هامة..
منها أن يقبل المجتمع العنف والقهر بحق المرأة باعتباره جزءاً طبيعياً من حياة أي مجتمع.
أن يقبل المجتمع التصاق معنى "الرجولة" و"الحب" بالعنف والاعتداء الجنساني، بحيث تضطر المرأة لقبول امتلاكها من قبل الرجل وفوقيته عليها، ثم القهر، فقط لتكون موضوع الحب، فهما بحسب هذا التصور متلازمان، وتلام الضحية إذا اشتكت أو حاولت النجاة، لأنها قبلت بالمحبة "مع" الإهانة.
أن يقبل المجتمع أن أعمال "الاعتداء" والعنف ضد المرأة أعمال "منفصلة" عن سائر السلوكيات التي يمارسها -غالباً- الرجال، وليست فصلاً من رواية أعم وهي استضعاف "الضعيف".
وأن يقبل المجتمع أن أصوله الثقافية والفكرية -ممثلة في مجتمعات جنوب وشرق تركيا- هي مجتمعات "العنف" و"القهر" بالأساس، وأن هذا لا يتغير مهما تغيرت الأزمنة والأنظمة السياسية.. حتى لو كانت معدلات قتل المرأة في تلك المحافظات أقل بنحو النصف والثلث من معدلات الجريمة في "إسطنبول".
في بلد تسابق مؤسسات الأمن فيه حماية النساء ضد تهديد الأزواج، وتنشئ فيه مراكز حماية المرأة والأسرة، وتخصص قوات أمنية لنجدة النساء والمطلقات في بيوتهن حال الاعتداء، وقوانين تفضي بوجوب التوجه الفوري لعنوان امرأة بأقل استغاثة تصدرها لقسم الشرطة، تأتي هذه الأعمال "الفنية" نشازاً على توجه السياسة العامة، وجريمة بحق المجتمع، لا يتقدم المسؤولون عنها للمحاسبة بدعوى أنه "فن" وأنها أعمال "ترفيه".
لكن أعمال "الترفيه" هذه لا تحظى بقبول جميع المشاهدين. مؤخراً نشرت الصحف التركية تلقي الهيئة العليا للتلفزيون والراديو ما يزيد عن 15 ألف شكوى بحق ثلاثة مسلسلات تتصدر قوائم المشاهدة – "Sen Anlat Karadeniz" ، "Ask Aglatir" ، "Hercai".
ما يعني أن الفرصة سانحة لاتخاذ خطوات جادة ضد تلك الأعمال، فلن يكون المجتمع آمناً إلا بتطبيق فعلي وصارم لمبدأ "حرمة الدماء: وتجريم العنف، تحديداً تجاه الفئات الضعيفة، تحديداً منها المرأة والأطفال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.