أعلن مدرب نادي سندرلاند الإنجليزي ستيف بروس التعاقد مع المدافع الأيرلندي جيمس ماكلين في صيف عام 2011 من فريق ديري. وصف بروس اللاعب الشاب بأنه تعاقد من أجل المستقبل، وأنه سيكون نواة وحجر أساس رفقة الفريق العريق القاطن في شمال إنجلترا. لكن رؤية بروس كانت قاصرة ولم تستطع التنبؤ بما تحمله الأيام. لأن ماكلين سيحتاج لموسم واحد فقط كي يتصدر عناوين الصحف في بلاد مهد كرة القدم، لكن لأسباب غير كروية.
لقي ذلك القرار احتفاءً كبيراً من جانب المجتمع الإنجليزي العاشق للتقاليد والذي تشكل كرة القدم جزءاً أصيلاً من ثقافته.
في تلك الأوقات كان هناك رجل في مدينة سندرلاند يدرس اتخاذ قرار قد يغير حياته إلى الأبد.
وحينما دقت لحظة الحقيقة وارتدى جميع اللاعبين أقمصتهم المزينة بزهرة الخشخاش وقف ماكلين وحيداً في وجه المدفع معلناً رفضه وضع الزهرة الحمراء على قميصه يوم مواجهة سندرلاند وإيفرتون على ملعب الغوديسون بارك في مدينة ليفربول.
استمر ماكلين في تحديه للتقليد الجديد بمنحه قميصه الخالي من زهرة الخشخاش إلى أحد المزادات الخيرية التي تدعم الأطفال في أيرلندا في حين كان الاتحاد الإنجليزي يمنح الأقمصة المرصعة بزهرة الخشخاش إلى الفيلق الملكي البريطاني لعرضها في المزادات الخيرية لدعم جمعيات المحاربين القدماء.
ورغم الانتقادات والاعتراضات التي واجهها ماكلين من جماهير الكرة الإنجليزية وعلى رأسها جماهير فريقه سندرلاند، الاعتراضات التي وصلت إلي حد التهديدات بالقتل إلا أنه أصر على موقفه الرافض لوضع الزهرة على قميصه طوال مسيرته مع سندرلاند والتي استمرت حتى صيف 2013 حين وقع لفريق ويغان أثليتيك. وهو الانتقال الذي سيمنح قضية ماكلين بعداً جديداً.
فمالك النادي، ديف ويلان، ينتمي إلى أحد عائلات ضحايا الحرب، حيث فقد جده "بادي ويلان" في الحرب العالمية ما جعل عدم ارتداء ماكلين لزهرة الخشخاش أكثر حساسية وصعوبة عن ذي قبل، ما اضطر ماكلين لتوضيح موقفه في رسالة إلى ويلان قبل أن يلتقيه وجهاً لوجه.
"قبل أن أقابلك بشكل شخصي أردت أن أشرح لك موقفي. أريدك أن تعرف أني أحمل كل التقدير والاعتزاز لكل من ماتوا في الحرب العالمية الأولى والثانية، وكان من بينهم الكثير من الأيرلنديين.. ولو كانت الزهرة تقدس أرواح من ماتوا في الحربين العالميتين فقط لارتديتها، لكنها تقدّس أيضاً أرواح من ماتوا بعد عام 1945. ومن هنا تأتي المشكلة.. أنا وكل شخص جاء من حيث أتيت -يقصد أيرلندا- ما زالوا يعانون من ذكرى يوم الأحد الدامي".
– جيمس ماكلين
في يوم الأحد الثلاثين من يناير/كانون الثاني عام 1972 فتحت القوات الإنجليزية النار على مظاهرة نظمتها منظمة أيرلندا الشمالية للحقوق المدنية في مدينة ديري أسفرت عن مقتل 28 متظاهراً سلمياً في أحد الأيام السوداء في تاريخ الصراع الإنجليزي الأيرلندي.
ولعبت ذكرى ما سيطلق عليه بعد ذلك "الأحد الدامي" دوراً كبيراً في تشكيل وعي أجيال كاملة من الأيرلنديين كان من بينهم ماكلين الذي وُلد بعد 17 عاماً من تلك المجزرة.
استمع ديف ويلان للرسالة وتفهم وجهة نظر ماكلين حينما قابله بشكل شخصي واتفقا على نشر هذا الخطاب في وسائل الإعلام أملاً في تهدئة الهجوم على ماكلين. لكن هذا الخطاب ككل تصريحات ماكلين لم تستطع أن تلعب دوراً مؤثراً في تهدئة الجماهير الإنجليزية التي استمرت في مهاجمته أينما حل.
لم يتراجع ماكلين عن موقفه طوال رحلته مع الكرة الإنجليزية والتي شهدت انضمامه أيضاً إلى ويست بروميتش ألبيون وستوك سيتي، بل إن ما فعله الجمهور زاده تحدياً لهم فوجه رأسه إلى الأرض رافضاً الاستماع إلى النشيد الملكي أثناء لعبه مع ويست بروميتش ألبيون.
لست وحدك يا ماكلين
عام 2018 ومع وصول شهر نوفمبر/تشرين الثاني، حيث توقع ماكلين أنه كعادة هذه الفترة من العام سيتصدر الصحف الإنجليزية، وسيتعرض للهجوم من الجماهير وحيداً كما اعتاد منذ 2012 لكن هذه المرة ظهر صوت آخر من شمال غرب إنجلترا يرفض ارتداء زهرة الخشخاش.
لاعب الوسط الصربي لمانشستر يونايتد، نيمانيا ماتيتش، والذي كان يعيش أزهى لحظاته مع الفريق أعلن انضمامه إلى جيمس ماكلين رافضاً ارتداء هذه الزهرة بعد أن عاش طفولته في مدينة فريلو الصربية والتي عانت مثل معظم المناطق الصربية من قصف قوات الناتو وفي القلب منها القوات الإنجليزية.
"أنا أحترم قرارات الجميع بارتداء هذه الزهرة. وأعزي كل من فقدوا أحباءهم في الحروب. لكن الطفل الذي بداخلي ما زال يتذكر الدمار الذي أحدثته قوات الناتو في وطني عام 1999 ولذلك لن أستطيع ارتداء هذه الزهرة".
– نيمانيا ماتيتش
التاريخ لا ينسى وماكلين لم يسامح
مع نهاية هذه الحقبة من تاريخ كرة القدم سيتذكر الجميع الصراع التاريخي بين ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو وسيطرة أبناء زيدان علي الكرة الأوروبية وتحدي يورغن كلوب لبيب غوارديولا على الأراضي الإنجليزية. لن يأتي اسم جيمس ماكلين في الأذهان سريعاً بين متابعي الكرة.. لكن مع مجيء شهر نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، سيتذكر الجميع موقف ماكلين الذي جلب له الكثير من المعاناة لكنه بالتأكيد سيخلد اسمه في تاريخ كرة القدم بكثير من الاحترام.
"ليس لديهم أي شيء في ترسانتهم الإمبريالية قادرة على كسر روح أيرلندي تأبى الخضوع. افعلوا أسوأ ما في جعبتكم. أنا أيرلندي وفخور بهذا. ولن يغير ما تفعلونه أي شيء".
– ماكلين
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.