"الفاشية" رغم كونها نظاماً ديكتاتورياً، إلا أن المفهوم الحقيقي
للفاشية كحركة ومذهب سياسي اتَّسع ليشمل المجتمعات فكرياً، والأنظمة الاقتصادية
كذلك. تتسم هذه المجتمعات ببعض الصفات المشتركة، من هذه الصفات إعلاء التقاليد ورفض
الحداثة، هذه المجتمعات تميل إلى تقديس التقاليد، وترفض إعمال العقل، باعتبار أن
إعمال العقل هو بداية الفساد في الأرض.
في كل المجتمعات المتقدمة النقد هو سبيل من أساليب التطور المعرفي، إنما في المجتمعات الفاشية الخلاف يعتبر خيانة أو إلحاداً أو عدم وطنية، كل على حسب الموضوع محل المناقشة، النقد لهم لا يبني؛ بل يتسبب في التفرقة، وكتطور طبيعي في هذه الحالة يُصبح اضطهاد المختلفين واجباً، لذلك يمكن اعتبار الفاشيين عنصريين.
هذا التخبط الذي يَضرب المجتمعات الفاشية يمكن رؤية نتائجه بوضوح مُتمثلة في تفاقم الإيمان بنظرية المؤامرة، الخوف الدائم من مؤامرات العدو، هذا العدو ذاته الذي يمكن أن نراه تارةً غايةً في القوة، وفي أوقات أخرى في مُنتهى الضعف، في تناقض واضح لكل إنسان يتحلى بعقل سليم. في المجتمعات الفاشية تميل القيادات، سواء كانت سياسية أو دينية لاستخدام الخطب الحماسية والعاطفية التي تُؤجج المشاعر، دون إعطاء معلومات حقيقية يمكنها أن تُخاطب العقول.
البهاليل في رأيي هم أكثر ظاهرة تُعبر عن أي مجتمع فاشي. البهلول هو شخص يَصبغ بعض الأشياء أو الأشخاص في الحياة بقداسة وتألِيه، لا يمكن معرفة جذورها، أو حتى أسبابها، ولديه من القناعات ما لا يمكن فهمه، الأسوأ من عدم وجود أسباب عقلانية أو دوافع منطقية لهذه الآراء هو اعتقاده أنك مُجبر أو مضطر لأن تُشاطره نفس آرائه، وإلا أنت من المغضوب عليهم، أو لَربما من الخونة أو الملحدين، أو أي أتهامات أخرى يصبغها عليك من وجهة نظره.
هؤلاء البهاليل يتميزون أيضاً بجهل شديد تجاه نفس المعتقد الذي يدافعون عنه، فإذا بدأت في الحديث وطلبت أن يَسردوا مُبررات عقلانية، أو أسباباً تدعم حجتهم تكتشف أنهم لا يملكون أي معرفة تُذكر، إنما هذا ما وجدوا عليه آباءهم الأولين. الأسوأ من ذلك أنهم يتركون الموضوع ويتحولون للتنكيل بك شخصياً، فبدلاً من أن يكون سجالاً معرفياً مبنياً على دوافع وآراء مضادة يتحول إلى سباب وعراك. يقول عبدالله القصيمي: "أكثر الشعوب المتحضرة تنتقد نفسَها وأشياءها، أما الشعوب العربية فإنها لا ترى فرقاً بين النقد والخيانة".
هذا البهلول لو كان يدافع عن شخصية عامة لها قُدسيتها بالنسبة له، ستراه يقول لك أسباباً من عينة "مفيش إنسان كامل"، صحيح ليس هناك إنسان كامل، ولكن عندما تستغل هذه الحُجة للدفاع عمن تُقدّسونه فمن حق الآخرين أن يعلنوا عن آرائهم حيال أخطاء هذا الشخص غير الكامل، وهو شخصية عامة، وهذا يعني أن آراءه وأخطاءه هذه أثرت على حياة آخرين، لا أحد فوق النقد.
من هذه الحُجج أيضاً موت هذا الشخص، فتسمعه يقول لك: "اذكروا محاسن موتاكم"، فهل أنتظر غداً أن يَظهر أحد المخابيل للمدافعة عن هتلر تحت هذا الشعار، وهل موت الشخص أوقف نقد أفكاره ونظرياته ومعتقداته؟! هل دُفنت أفكار ومعتقدات هذا الشخص معه، أم تركنا نعاني منها ومنه بعد موته؟! هل توقف الأثر أم مازال مستمراً؟! من العبارات الأخرى المستخدمة للدفاع عن ذوي القدسية في حياة البهاليل عبارات من عينة: "كل إنسان يُخطئ ويُصيب" و "أن هذا الشخص كان له ما له وعليه ما عليه"، ولكنني بعد هذه العبارة ما سمعت أحدهم يوماً يقول ما كان عليه! يقول مالك بن نبي: "ألا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يُلبسُه أصحابه ثوب العلم، فإن هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوام، لأن جهل العوام بيِّن ظاهر يسهُل علاجه، أما الأول فهو متخفٍّ في غرور المتعلمين".
يقول نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل: "لم يكن عجيباً أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقاً"، وأنا دائماً أزيد على تلك الجملة قائلة إنه لم يكن غريباً أن يَعبد المصريون الفرعون، ولكن الغريب أن فرعون نفسه قد آمن بألوهيته، آمن بقدرته على إحياء الموتى وإماتة الأحياء، ولِمَ لا وقد حظي بأتباع أكسبوه اليقين.
يتميز البهلول أيضاً بأنه شخصية غوغائية، والغوغائية هي طريقة تفكير سطحية وبدائية، تعتمد على ذاتية الشخص دون اللجوء إلى أي معايير موضوعية ومنطقية. الغوغائية في اللغة تعني الصوت والجلبة، الغوغائيون يقاومون التغيير، فالغوغائيون يحتفظون بمبادئهم وأفكارهم ثابتة كما هي، ويحاربون التغيير. يميلون إلى التعامل مع الآخرين وحل مشكلاتهم عن طريق الصراخ بوجوه الآخرين، ويستخدمون هذه الطريقة كحيلة للدفاع عن أنفسهم، يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة دون غيرهم، بالإضافة إلى اعتقادهم أنهم على صواب، ولا يرتكبون الخطأ مطلقاً، بجانب سرعة التصديق فهم يعتمدون على المعلومات الأولية التي يسمعونها، دون محاولة منهم للبحث عن الدلائل أو القرائن أو البراهين.
لا شيء يَعدل غرور الإنسان وذاتيته في بعض الأحيان، فهو يرى نفسه دائماً جديراً بأفضل الأشياء، فإذا حالت بينه وبينها حوائل العرف والعدل وحقوق الآخرين عليه، لم يتورع في بعض الأحيان عن أن يستخدم الأساليب الميكيافيلية في ليِّ الحقائق، ليسوغ المنطق المعكوس لنفسه وللآخرين، لتحقيق رغباته وأهوائه". عبد الوهاب المطاوع.
صديقى العزيز لا تكن بهلولاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.