«صنيعة السادات أم معبّر عن المجتمع؟».. الشعراوي في مرمى النيران

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/07 الساعة 16:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/07 الساعة 16:16 بتوقيت غرينتش

بحلول القرن الواحد والعشرين وبتطور وسائل التواصل الاجتماعي؛ ظهرت العديد من الدراسات التي تتحدث عن وجود فضاء تواصلي إلكتروني. وهو فضاء مختلف تماماً عن فضاءات التواصل بين البشر القديمة. للمزيد من الإيضاح والتبسيط يمكننا القول إن الفضاء التواصلي هو المكان الذي يجمع الأفراد معاً لممارسة نشاط ما ويتجاذبون فيه أطراف الحديث، وقد يحتدم النقاش والخلاف بينهم وقد يتفقون، ومن ثم يصلون إلى وجهات نظر مُعينة تشكل تصوراتهم عن المجتمع والعالم من حولهم سواء كان هذا الفضاء واقعياً أم إلكترونياً.

خلال الأيام القليلة الماضية انتشر نقاش (تريند) حول الشيخ الشعراوي كالنار في الهشيم، وكعادة التريندات، سرعان ما يتلقفها فريقان: الفريق الأول اعتبر الشعراوي "صنماً" قد صنعته دولة الرئيس المؤمن (أنور السادات) خلال عقد الصحوة الإسلامية في السبعينات وأن هذا الصنم قد وُجد ليبقى، مُصدراً كل أنواع الأفكار الأبوية والتشددية في الإسلام لكنها في نفس الوقت لا تتصادم مع سياسات الدولة وتلقى منها كل القبول. والفريق الأخر يعتبره بمثابة "رمز" لكل ماهو وسطي ومتسامح في الإسلام وأنه صنيعة الثقافة الشعبية الإسلامية الراسخة في عقل ووجدان هذا الشعب. من ثم لا يمكن التطاول عليه أو الخلاص منه حتى وإن بدر منه بعض الهفوات، لأن المقام الذي نصّبه له الجماهير هو مقام الميزان في عالم لم يعد يعتبر بالموازين، عُرضة للتغيرات الجذرية والسيولة الثقافية التي لا يعرف العقل الجمعي إمكانية التعامل معها.

لكن كعادة التريندات والمشاركين فيها وأحكامهم الأخلاقية والقيمية المُسبقة. فدائماً ما تضيع المُعضلة داخل الخلافات السياسية وتشخيص الصراعات. لكن أكثر ما لفت انتباهي هذه المرة هو طبيعة الادعاء. هل الدول تصنع الصنم\الرمز أم يصنعه الأفراد؟ وهو سؤال محوري له مقام علمي بالقدر الأول في علم الاجتماع وله مقام تاريخي وسياسي بحسب الحدث الاجتماعي والسياسي الذي ظهر فيه الشعراوي نفسه.

فك الاشتباك الثقافي بين الدولة والمجتمع

هل المجتمع المصري مجتمع متدين الثقافة كما يشيع عن نفسه؟ أم فُرض عليه نمط معين من التدين المهادن من قِبل السلطة ليبتعد عن نقدها ويُمكن إحكام السيطرة عليه؟

الجدال حول قضية الثقافة استهلك عدداً كبيراً من علماء الاجتماع، وكانت أغلب النظريات التي تحاول تفسير الثقافة دائماً ما تنتهي إلى اتجاه من اثنين: الأول هو أن الثقافة من إبداع الذوات الفردية الحرة، يكون الأفراد فيها بمثابة اللبنات الاجتماعية التي تُشكل الثقافة والمؤسسات مثل الدولة وجمعيات العمل الاجتماعي وغيرها. وأبرز من نظّروا لهذا الاتجاه هو ماكس فيبر. والاتجاه الثاني هو الذي ينظر للثقافة على أساس أنها نتيجة عمل المؤسسة والتنظيمات الاجتماعية فهي التي تُنشئ الأفراد وتكيفهم بحسب حاجتها دون تدخل منهم وبشكل حتمي، وأبرز من دعا لهذا الاتجاه هما عالميا الاجتماع دوركايم وبارسونز.

ظلت هذة الاختلافات مستمرة حتى جاء أنتوني غيدنز وهو عالم اجتماع بريطاني، الذي يرى أن عملية البحث عن السبب الرئيسي الذي يُنشئ الثقافة هي عملية أشبه بجدلية البيضة والدجاجة وأيهما أتى قبل الآخر. وبدلاً لذلك يقترح منهجاً قائم على التكامل بين النسق (في هذه الحالة الدولة) والفعل (الذي يقوم به الأفراد) وهو منهج تكاملي. فالأفعال الفردية تكتسب شكلها من خلال المؤسسة أو الدولة ويُعاد إنتاج الدولة من خلال أفرادها والفاعلين فيها، ويُطلق غيدنز على الجانبين "البنية" فلهذه البنية لُعبة لغوية من نوعٍ ما يتفق الجانبان على قواعدها وعلى طريقة لعبها دون حتى أن يكونوا واعين لها. وهو ما يجعل نشاط أفراد المجتمع (الفاعلين) يتحرك بنفس الكيفية التي تتحرك بها المؤسسة المُنظمة (الدولة).

لتصبح الطريقة المناسبة لدراسة موضوع الثقافة هي من خلال متابعة الجدلية نفسها لمحاولة الوصول إلى حقيقة البنية الاجتماعية نفسها، هذه البنية هي التي تفسر كيف تبنى الشعب قضايا التحرر والوحدة العربية أيام جمال عبد الناصر وتحويل انقلابه إلي ثورة شعبية، أو تفسر كيف أصبح عقد السبعينات هو عقد الصحوة الإسلامية وهو نفسه عقد دولة العلم والإيمان التي تبناها أنور السادات.

ثقافة محافظة وليست إسلامية بالضرورة

نشأت الدولة الحديثة في أوروبا من خلال استحداث نمط مركزي في الحكم والإدارة يعمل على إحتكار العنف وحق ممارسته من ناحية وجباية الضرائب من ناحية أخرى بحسب ما يشرح ماكس فيبر. ومن خلال تلك المركزية قامت الدولة الحديثة بتفكيك كافة الأنماط الاجتماعية والاقتصادية السابقة عليها مثل القبيلة أو الطائفة واستبدالها بنمط أخر يكون فيه الفرد مواطناً في الدولة له حقوق وعليه واجبات.

لكن العملية لم تسر بتلك السلاسة في كل البلاد الأوروبية، فعلى رغم من تمركز الدولة في المدينة وتحديداً العاصمة وما حولها عدد من المدن الصناعية. لكن قاوم الهامش الجغرافي لعملية التحديث تلك وحاول الاحتفاظ بثقافته القديمة على النقيض من تلك المحاولات المستمرة من المركز لتفكيكها، وغالباً ما كانت هذه الثقافة القديمة هي "ثقافة ريفية" تعمل من خلال نخبتها الخاصة المنتفعة من نمط اقتصادي بدائي. وكان الصراع بين المراكز الحضرية والهوامش الريفية هو الطابع الخاص من منتصف القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن العشرين، ففي فرنسا دعمت الثقافة الريفية إمبراطورية لويس بونابرت الرجعية التي كانت تتفكك ضد كل المحاولات الثورة التي انطلقت من باريس، وفي روسيا ذات الأغلبية الريفية تم دعم القصير رومانوف وأسرته حتى تم الانقلاب عليه في فبراير 1917. وفي الجنوب الأمريكي الذي خاض حرباً أهلية طويلة كانت الثقافة الريفية التي ما زال يغلب عليها بقايا العبودية واضطهاد الأقليات العرقية والعنصرية. وهي الثقافة التي كانت موطناً لليمين المسيحي المحافظ الذي انطلق منها وسيطر على الحزب الجمهوري من ثم على كل السياسة الأمريكية تحديد من نهاية السبعينات والذي حفزته كانت حركة التحرر المدني من الشمال الحضري.

لم تختلف الأمور كثيراً في الدول العربي التي بدأت في الخضوع لعمليات التحديث بداية من عهد محمد علي حتى بداية عصر الانقلابات العسكرية في مصر وسوريا والعراق، فالبلاد كان يغلب عليها الطابع الريفي القائم على نمط إنتاج رأسمالي بدائي يقوم عليه الوجهاء والإقطاعيين يدعمهم في ذلك ثقافة محافظة ومتمسّكة بالعادات والتقاليد، يتشارك فيها المسلمين والمسيحيين والأقليات الطائفية والعرقية الأخرى.

وفي مصر تحديداً عمل النظام الناصري على تفكيك النمط الزراعي القديم واستبداله بنمط صناعي مركزي، من ثم بناء طبقة وسطى بيروقراطية في المدينة معبأة بأيديولوجيا وطنية. لكنها في الوقت نفسه لم تتمكن من السيطرة على الهوامش الريفية البعيدة عن مركز السلطة والتي ظلت محافظة على وجهائها وتصوراتها الاجتماعية المحافظة، التي جعلت الأغلبية أقدر على تقبل التصورات الإسلامية والعمل الإسلامي بشكل أكبر من تقبل أي تصورات أخرى يسارية أو ليبرالية.

المد الإسلامي ودولة الرئيس المؤمن

نشأت جماعة الإخوان المسلمين بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بأربع سنوات، لتصبح ردّاً على المكتسبات الثقافية الناتجة من حركات التحديث وضد الوافد الأجنبي بالضرورة، سواء في شكله اليساري أو العلماني، لتأخذ الجماعة بالانتشار مع دعوة الشيخ حسن البنا، التي اتسعت وقابلتها بالترحيب كل الأوساط المحافظة، لتبنّيها خطاباً شعبوياً احتوى على رفضٍ للاحتلال البريطاني والمطالبة بالتخلص منه، ومن ناحية أخرى الدفاع عن تعاليم الإسلام وشعائره ضد كل المدخلات الثقافية المختلفة التي تسربت إلى المجتمع المصري المُسلم بالضرورة. ونتيجة لتوسُّع القاعدة الاجتماعية التي تبنَّت رؤية حسن البنا، تحولت الدعوة إلى صراع محموم مع الحكومة والقصر، لتمرَّ الجماعة بعدة تحولات وصدامات، أَشدّها ما نتج من حلٍّ للتنظيم في 1965 والذي تسبب في إعدام سيد قطب.

تراجعت الأيديولوجيا الناصرية بعد نكسة 67 تدريجياً، وبدأت القبضة الأمنية على المساجد والجامعات تخفُّ تدريجياً حتى بدأت الحركة الطلابية في بداية السبعينيات. يقول عبدالمنعم أبو الفتوح، الذي كان أحد أهمّ الفاعلين في الحركة الإسلامية بجيل السبعينيات: "بدأ عقد السبعينيات يسارياً وفي منتصفه ناصرياً، وبالنهاية إسلامياً صرفاً".

ومع نهاية عام 73 وانتصار أكتوبر، بدأت أنظار نظام السادات تتجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والخضوع لاستراتيجية هنري كسينجر المُتَّبعة في الشرق الأوسط لاحتواء المد الشيوعي. عندها أخرج جماعة الإخوان المسلمين من السجون الناصرية في 74، وأطلق يد شباب الجماعة الإسلامية دون التعرض لهم بالمنع أو التحجيم، ومن ناحية أخرى بدأ في تفكيك قواعد اليساريين بالجامعات، والقضاء على تنظيماتهم السرية، وتركهم فريسة لإرهاب الجماعة ذات الطابع السلفي، كما شهد بذلك عبدالمنعم أبو الفتوح نفسه. وفي تلك الأثناء بدأ يبزغ نجم عديد من الشيوخ، نتيجة لإتاحة الفرصة للمخيمات الطلابية والندوات والمؤتمرات، ومنهم الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي والشيخ الشعراوي.

وخلال ذلك الجو الإسلامي الشعبوي تبنَّى السادات خطاب دولة العلم والإيمان، كبديل لخطاب ناصر القومي الاشتراكي الذي انهار بعد النكسة، ليصل خطاب السادات إلى أُشدّه في 1980، بعد اندماج جماعة الإخوان المسلمين مع الجماعة الإسلامية وتوسُّعهما في جميع المحافظات والمنابر والاتحادات الطلابية. وفي تلك الفترة بدأ الشعراوي ينتقل من مجرد كُتب يتداولها طلبة الجامعة الإسلاميون إلى تسجيل خواطره القرآنية على التلفزيون بلغة بسيطة وشعبية يخاطب بها البسطاء من الريف قبل المثقفين والنخبويين من أبناء الجامعات، دون أن يتعرض بالنقد للدولة؛ ومن ثم حافظت الدولة على خطابه وما يقدمه، وساعدت على انتشاره، لتلتفَّ حوله جموع الشعب؛ لما يقدمه من خطاب إسلامي مؤمَّم مقطوع الصلة مع الحقبة الناصرية من جهة وشعبوي من جهة أخرى.

ما نريد أن نقوله من هذا المقال هو أن الدولة المصرية قصيرة اليد فيما يخص الأطراف من الريف والصعيد، حيث ظلَّ سكان هذه المناطق يعانون التهميش الاقتصادي والثقافي وحتى التربوي، وهو ما جعل الثقافة المحافظة تتشرب الثقافة الإسلامية ذات الطابع السياسي، وعندها تنوَّع ردُّ الفعل السياسي الأمني من قِبل الدولة، بين المنع التام (عبدالناصر) وإطلاق اليد لتحقيق مصالح محددة (أنور السادات) إلى التحجيم والمناورة (مبارك)، لتظل المسألة الإسلامية عالقة دون حل جذري حتى الآن.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى هشام
باحث مصري مهتم بالفلسفة والعلوم الإنسانية
باحث مصري مهتم بالفلسفة والعلوم الإنسانية