يكاد المجتمع الحقوقي المحلي والإقليمي والدولي لا يفهم لماذا يعادي الإسلاميون في المغرب حقوق الإنسان، وينتصبون في الوقت نفسه أمام البرلمان وفي الشوارع الرئيسية والأزقة والساحات العمومية والحرم الجامعي وغيره، مطالبين بحقوقهم.
عداء يعتبره حقوقيون من الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع الحقوقي، الذي عرفته المملكة المغربية منذ مجيء إسلاميي العدالة والتنمية المغربي إلى الحكم، لاسيما مع تعدُّد مشاهد الاعتداء على المواطنين المحتجين في كل من الرباط وبني بوعياش والدريوش وامزورن وتازة وصفرو وفكيك وجرادة والحسيمة وغيرها، وتردد الحكومة الحالية أو التي انتهت ولايتها في تفعيل التزامات المغرب تجاه المنتظم الدولي في ما يتعلق بقضايا الحقوق والحريات، خصوصاً ما يخص اتفاقيات حرية المعتقد ومناهضة عقوبة الإعدام والعنف ضد النساء.
تراجع وصفه مسؤولون سياسيون وحقوقيون بالـ"ردة غير مسبوقة منذ وصول حكومة بنكيران إلى الحكم"، وهي ردة ستكون لها من دون شك انعكاسات سلبية تضرب في العمق المكتسبات الإيجابية التي عرفها المغرب في العقدين الأخيرين في مجال حرية الرأي والتعبير والصحافة والحق في الإضراب والاحتجاج والتظاهر السلمي، بل هناك من ذهب إلى أكثر من ذلك عندما اعتبر أن مغرب سنوات الجمر والرصاص أرحم بكثير من هذا الذي يرأس حكومته الإسلاميون.
ويستندون في ذلك إلى مجموعة من المعطيات، منها تصاعد وتيرة احتجاجات المواطنين في مجموعة من المدن والمداشر خصوصاً في مدينتي الرباط والحسيمة وجرادة، للمطالبة بحقهم في الشغل والإدماج في سلك الوظيفة العمومية والسكن والتطبيب والتعليم… وعوض الاستجابة لهذه المطالب الاجتماعية المشروعة فضَّلت حكومة العثماني مواجهتها بالضرب والتنكيل والتهديد والاعتقال، ضاربة عرض الحائط دستور 2011، الذي ينص صراحة وبشكل واضح وشفاف على أن "من حق المواطنين التظاهر بشكل سلمي وخوض الإضراب".
ولكي تبرر هذا الفعل اللاحقوقي اتهمت هؤلاء بالتعامل مع جهات خارجية معادية للوحدة الترابية للمغرب وأنهم مجرد عملاء مخربين وانفصاليين وما إلى ذلك، ثم عادت لتعتذر وتعترف على لسان رئيسها، خلال لقاء خاص مباشر بثته يوم السبت 1 يوليو/تموز 2017 القناتان الأولى والثانية، بأن موقف الأحزاب الحكومية كان خطأ لم يكن ليُرتكب، مبدياً أسفه الشديد لما حصل، ومشدداً على ضرورة التجاوب مع مطالب سكان المنطقة في إشارة إلى منطقة الريف.
ويستندون كذلك إلى التقارير الدولية التي تضع المغرب في مراتب جد متدنية على المستوى الحقوقي، ومنها تقرير مؤشر حرية الصحافة، الصادر أخيراً عن منظمة "مراسلون بلا حدود" الدولية، الذي يصنف المغرب في مراتب متأخرة مقارنة مع بعض دول منطقة شمال إفريقيا، في إشارة إلى كون حرية الصحافة في المملكة تبدو في وضع "صعب"، وأيضاً تقرير منظمة العفو الدولية حول حراك الريف وتقرير أمريكي صادر عن وزارة الخارجية رسم صورة قاتمة عن حرية ممارسة المعتقدات الدينية بالمغرب، وتحدث عن غياب أي "تغيير من جانب الحكومة في وضعية احترام الحرية الدينية"، مشيراً إلى أنها "استمرت بشكل متقطع في فرض القيود القانونية القائمة على هذه الحرية"، على الرغم من أن عدداً من العلماء والمفكرين المتنورين قد تصدوا لهذه القضية بالشرح والتحليل، وقالوا إن "العقيدة حرية وشأن إنساني خاص بين الإنسان وربه، وليس لأحد أن يُكره أحداً على اعتقاد أو تغيير اعتقاده تحت أي ظرف من الظروف، وبأي نوع من أنواع الإكراه"، والإشارة هنا للعالم والفقيه التونسي محمد الطاهر بن عاشور.
فتجار الدين يعادون هذا الحق ليس فقط لغير المسلمين بل حتى للمسلمين الذين يختلفون مع توجهاتهم الأيديولوجية ولا يخدمون أجنداتهم، وكمثال على ذلك ما وقع للمواطن اليمني حامد بن حيدرة، الذي أعدمته إحدى المحاكم اليمنية الجزائية المختصة التابعة للحوثيين في صنعاء، قبل أن تصادر أمواله وممتلكاته بسبب معتقداته الدينية البهائية، التي تختلف ومعتقدات أنصار الله ويتضح أن أمثال تلك التنظيمات المتطرفة هي التي تعودت على حرمان المواطنين من الحقوق والحريات العامة، حيث إنها لا تحترم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان كما هو متعارف عليه بل ولا تحترم حتى التعاليم الإسلامية التي تدعو إلى المساواة بين الناس بغض النظر عن اللون والجنس والعقيدة، وكل ما تفعل هو أن تفتعل اتهامات لا صحة لها لتبرر انتهاكاتها السافرة وغير المسؤولة لحقوق الإنسان.
وليس هذا المواطن اليمني وحده من تعرَّض للاضطهاد بسبب معتقده، فقد سبقه في ذلك مواطنون آخرون ينتمون إلى بلدان عربية وإسلامية أخرى، لكن بصور اضطهادية مختلفة، ومن ذلك المواطن المصري فرج فودة وما أثير حول قضيته من فتاوى ظالمة تُفتي بوجوب قتل المرتد، ثم جاءت قضايا حامد أبوزيد، وحسن حنفي ونوال السعداوي والمواطن الأفغاني عبدالرحمن عبدالمنان، وربما تأتي قضايا أخرى أخطر ما لم يتجند قادة الفكر الإسلامي المتنور لتخليص الإسلام أولاً من أيدي دعاة الفكر الدموي المتطرف من المستغلين والمتاجرين بقدسيته، والحسم ثانياً في هذه القضايا وتوسيع نشر المبادئ الإسلامية العامة التي جاء بها الإسلام ومن أهمها حرية المعتقد والتعبير وحرية التدين وأنه لا إكراه في الدين.
ومن الحقوق الأخرى التي يعاديها المتاجرون بقدسية الدين إلغاء عقوبة الإعدام، على الرغم من أن إلغاء هذه العقوبة أصبح توجهاً إقليمياً وعالمياً، إذ إن العديد من الآليات القانونية الدولية تدفع في هذا الاتجاه، وأن أكثر من ثلثي البلدان ألغت هذه العقوبة في قوانينها أو من خلال التوقف عن تنفيذها كما هو الشأن بالنسبة للمغرب الذي لم ينفذها منذ عام 1993.
وينطلق المنتظم الحقوقي الدولي في إلغائه لعقوبة الإعدام، من منظور أن الحياة حق للجميع، وأن العدالة ليست بمنأى عن الأخطاء القضائية، ومن كون عقوبة الإعدام لم تثبت نجاعتها في الردع، ومن أنها انتهاك لقدسية الحياة التي لا يحق لأحد أن يزهقها سوى الخالق سبحانه وتعالى، وأنه يمكن استبدالها بعقوبات لا تحمل طابع الثأر والانتقام، بل طابع التأهيل والعلاج، كما في عقوبة السجن التي يمكن فيها إعادة تأهيل المتهم الذي عادة ما يكون شخصاً غير سوي وغير متوازن نفسياً وانفعالياً، الأمر الذي يجعل إعدامه شكلاً من أشكال الإجحاف بحقوقه، ذلك أن الهدف من إلغاء عقوبة الإعدام هو وقف دورة العنف، من خلال فرض عقوبات بديلة تقوم على أساس التسامح والرأفة وإعادة التأهيل وإعادة الإدماج.
وتحث هذه الفئة دول العالم على الإقلاع عن تطبيق هذه العقوبة، والاكتفاء بالاعتقال المؤبد بدل الإعدام، مع جعل السجون مؤسسات إصلاحية إنتاجية يتم تعليم المجرمين فيها التحلي بالصبر والإيمان لكسب الرزق من عرق الجبين، وتعليمهم أيضاً احترام الآخر والتعامل معه برفق ولين، والأخذ بأيديهم حتى يصبحوا مواطنين صالحين يعرفون حدود حريتهم وحدود حريات الآخرين، وإذا حسنت سيرتهم، فينبغي إطلاق سراحهم ليعودوا إلى مجتمعاتهم، فيعيشوا فيها مثلهم مثل غيرهم.
إن ما يجعل ملف حقوق الإنسان والحريات العامة، موضوع نقاش حاد في عهد هذه الحكومة والحكومة التي سبقتها، يعود لسبب رئيسي، هو أن هذا الملف كان سبباً في التوافق السياسي، الذي جاء بحكومة التناوب في مارس/آذار من عام 1998، فقد ظل الخلاف حول انتهاكات حقوق الإنسان وتجاوزات وشطط السلطة في هذا المجال، إحدى النقاط الأساسية التي تصارعت من أجلها الأحزاب الوطنية ممثلةً حينها في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي مع الدولة، وبذلك فإن كل مس بالمكتسبات الحقوقية يشكل خطراً يثير مخاوف ليس فقط هذه الأحزاب، ولكن كل مكونات المجتمع المدني التي تبنَّت الملف الحقوقي، من أن نعود مرة أخرى إلى عهد السيبة والقمع والتنكيل والجمر والرصاص والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.